في اللقاء الذي جمع قادة مصر والأردن ووزير الدفاع الأميركي قبل يومين، تم تأكيد أهمية وضرورة وقف التصعيد الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة، جنباً إلى جنب فتح أفق سياسي للقضية الفلسطينية. الموقفان الأردني والمصري معروفان مسبقاً، وتم إبلاغهما لواشنطن مرات كثيرة طوال السنوات الماضية، وكررتهما عواصم عربية كثيرة لرؤساء أميركيين مختلفين ومراكز فكر وصناع قرار. والنتيجة معروفة للجميع، ولها أكثر من بُعد، فلا اهتمام أميركياً بالتسوية أو المفاوضات أو الضغط على أي حكومة إسرائيلية لوقف عمليات التغيير الديموغرافية الجارية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، يصاحبها غياب الرؤية الأميركية الموضوعية لطبيعة ما يجري في الأراضي الفلسطينية المحتلة من حيث كونها أرضاً محتلة وشعبها لن يتنازل عن حقوقه، وتصاعد مخزون الغضب والرفض للاحتلال الإسرائيلي لا سيما للأجيال التي نشأت في ظله وتتعرض لكل الانتهاكات يومياً، فضلاً عن فقدان الثقة الشعبية فيما يمكن أن تقوم به السلطة الفلسطينية، أشخاصاً ومسؤولين، لوقف الانتهاكات الإسرائيلية المتصاعدة ضد الإنسان الفلسطيني، أو الحفاظ على أبسط حقوقه في الكرامة ومنزل آمن وطريق بلا منغصات في الحل والترحال.
الإنكار الأميركي للحق الفلسطيني في دولة أمر مثبت، رغم التأييد اللفظي لحل الدولتين الذي يتناقض عملياً مع الوقائع التي فرضها الاحتلال في العقود الثلاثة الماضية في الضفة والقدس، وذلك تحت مظلة الدفاع الأميركي بلا هوادة عن الرؤية الإسرائيلية فيما يسمي حق الدفاع عن النفس، مشفوعاً بالنظر إلى الحد الأدنى من الرفض الفلسطيني للاحتلال والمطالبة بإنهائه، سياسياً كان أو إعلامياً أو قانونياً، بوصفه فعلاً إرهابياً موجهاً ضد حليف إستراتيجي، أو على الأقل تصويره كتحريض مرفوض على كراهية هذا الحليف الإستراتيجي يستدعي العقاب والإنكار والحصار، ما منح إسرائيل مجالاً واسعاً لفعل ما تريد من دون أدنى خوف أو قلق من أن تضغط واشنطن، أو أي أطراف دولية أخرى عليها لوقف الانتهاكات ضد الفلسطينيين، مع حصر أولويات الاستقرار الإقليمي لمواجهة إيران دون غيرها.
تبنّي المؤسسة السياسية الأميركية برمّتها، للرؤية الإسرائيلية بكل عناصرها، الفلسطينية والإيرانية والتطبيعية، والترويج لها وبذل كل جهد ممكن لإضفاء شرعية عليها دولياً وإقليمياً، كل ذلك أسهم بدوره في إحداث تحولات عميقة لدى الأجيال الفلسطينية الشابة، بأن الولايات المتحدة ليست طرفاً يمكن الوثوق به، وأن مشروعات التفاوض والتسوية التاريخية لا معنى لها، والبديل الموثوق هي المقاومة المسلحة سواء رضيت السلطة أم لم ترضَ، وسواء صعّد الاحتلال من عقوباته الجماعية أم لم يرفع. وفي هذا السياق فإن العروض الأميركية لترضية السلطة الجزئية والمؤقتة سواء المالية أو البيانات الرمزية لم تَعد تؤدي الغرض منها في تغيير قناعات الفلسطينيين لقبول الفتات مصحوباً بالانحناء للاحتلال ونسيان الحقوق الوطنية. ومع ذلك فالمحاولات الأميركية لم تتوقف، ويبدو أنها لن تتوقف. وآخر تجلياتها زيارة وزير الدفاع الأميركي لكل من الأردن ومصر وإسرائيل، ومن قبل زيارة وزير الخارجية بلينكن، التي التقى فيها الرئيس الفلسطيني محمود عباس ولم يقدم شيئاً يُذكَر لضبط السلوك الإسرائيلي المتطرف والعنيف تجاه الفلسطينيين، ولا نقول بدء عملية سياسية تُنهي الصراع أو تبشّر بنهاية معقولة في مدى زمني محدود.
وهنا تثور تساؤلات عدة، نُجملها في ثلاثة أسئلة مركزية: كيف يفكر العقل الاستراتيجي الأميركي بشأن مصالحه الكبرى في المنطقة العربية؟ وهل لديه فهم موضوعي لما يسود لدى غالبية الرأي العام العربي تجاه السياسة الأميركية بشأن قضايا العرب ومصالحهم الكبرى؟ وهل لديه دوافع تعينه على إعادة النظر في تلك الاستراتيجية التي لم تحقق أمناً ولا استقراراً إقليمياً؟ من الواضح أن هناك قدراً هائلاً من الانفصال الاستراتيجي الأميركي عن المشاعر السائدة عربياً، رسمياً وشعبياً، بما فيها مِن رفضٍ وإنْ بدرجات مختلفة بين بلد عربي وآخر للأسس اللامنطقية التي يتحرك على أساسها المسؤولون الأميركيون تحت عنوان عريض يُعنى بتعزيز الشراكات الاستراتيجية مع الحلفاء الأساسيين في الإقليم، من دون الأخذ في الاعتبار مصالح هؤلاء الحلفاء الحيوية، أو على الأقل رؤيتهم فيما يتعلق بالاستقرار الإقليمي وعلاقته بتسوية القضية الفلسطينية بإنصاف.
ويبدو الانفصال الأميركي عن الاتجاهات العربية جلياً في موقفين؛ أولهما رفض عربي لما تطرحه واشنطن بشأن الأوهام الإسرائيلية بتشكيل ناتو عربي أو مظلة أمنية إقليمية تشارك فيها عدة دول عربية، تعتمد الأسلحة الأميركية والقيادة الإسرائيلية لمواجهة إيران عسكرياً وبما يحقق أهداف إسرائيل الإقليمية، وبغضّ النظر عمّا يمكن أن تجلبه تلك المواجهة إن حدثت من تداعيات خطيرة على الأمن العربي. وثانيهما رفض عربي لمسعى تشكيل قوة أمنية فلسطينية خاصة في الأراضي المحتلة، هدفها قمع مجموعات الشباب الفلسطيني المسلحة التي تواجه قوات الاحتلال الإسرائيلي وتشكل له تهديداً متنامياً. ومنبع الرفض العربي أن جوهر الفكرة الأميركية – الإسرائيلية يعني دفع الفلسطينيين إلى مواجهات أهلية فيما بينهم، ويزيد من فجوة الثقة الشعبية الفلسطينية في السلطة الوطنية، ما يوفر على قوات الاحتلال الإسرائيلي جهد المواجهة، ويصدق على روايتها الزائفة حول الإرهاب الفلسطيني.
كما يبدو أيضاً أن العقل الاستراتيجي الأميركي ليس مؤهلاً حتى اللحظة لإعادة النظر في هذه الطريقة من التكتيك السياسي الفاشل في تحقيق أهدافه في المنطقة العربية والشرق الأوسط، فكل المعارك السياسية والعسكرية التي تنخرط فيها السياسة الأميركية تتعرض لانتكاسات كبرى، من بينها المعركة ضد الإرهاب الداعشي والقاعدي معاً، ومحاصرة النفوذ الإيراني، والوضع في سوريا، والنفوذ الصيني والروسي المتنامي. ورغم أن الوضع الداخلي المتداعي سياسياً وأمنياً في إسرائيل، والذي يعد نتيجة منطقية للسياسات الأميركية المنحازة بلا قيود طوال العقود الماضية، يستدعي قدراً من التأمل وإعادة النظر في النتائج الكارثية المحتملة داخلياً على الحليف الاستراتيجي الأول لهم في الإقليم، فإنه لا مؤشرات يمكن الاستناد إليها لانتظار مثل هذه المراجعة. وتأتي الانتخابات الأميركية والمزيدات التي تحدث فيها بشأن مَن سيقدّم الدعم والمساندة الأكبر لإسرائيل، كأحد العوامل الهيكلية التي تَحول دون تلك المراجعة.
انتظار تحولات كبرى في الفكر الاستراتيجي الأميركي تجاه القضايا العربية لن تحدث قريباً، يفرض أعباء على أصحاب الإقليم وكبرائه، دون تجاهل ضرورة الحركة المنسقة والدؤوبة تجاه واشنطن ومؤسساتها ومراكز الفكر فيها وإعلامها. ونقول حركة منسّقة لأنها تتطلب مشاركة وعملاً جماعياً وليس جهداً فردياً، وتتطلب رؤية واضحة لأسلوب العمل في الداخل الأميركي، والأهداف المرجوّ تحقيقها تباعاً وفق مدى زمني مناسب يراعي الانتخابات الأميركية، وما يحدث فيها من تقلبات ضد المصالح العربية أو بعضها على الأقل. الكثير من الجهود المنفردة جرت في السابق، وحققت أهدافاً جزئية، لكن يظل التحرك الجماعي هو الأنسب والأرجح إذا توافقت الرؤى على أهمية تعديل بعض أوجه الفكر الاستراتيجي الأميركي تجاه العرب ومصالحهم العليا.
نقلا عن الشرق الأوسط