قام وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، بزيارة إلى الخرطوم، بتاريخ 8 فبراير الجاري، أجرى خلالها مباحثات مع المسؤولين السودانيين، وفي مقدمتهم رئيس مجلس السيادة السوداني ونائبه، بجانب وزير الخارجية المُكلف، السفير علي الصادق. وتأتي زيارة لافروف في ظل تعقيدات إقليمية ودولية، وموجة استقطابات حادة تجتاح المجتمع الدولي في أعقاب الحرب الروسية الأوكرانية. وتأتي الزيارة لتطرح عدداً من التساؤلات حول الأهداف الروسية من التقارب مع السودان؛ خاصة وأن الأخير يُعاني وضعاً استثنائياً في ظرفه الراهن سياسياً واقتصادياً وأمنياً، وتخوفات إقليمية ودولية من تواصل عدم الاستقرار، وانتقال تأثير ذلك على مُحيطه الإقليمي؛ نظراً لأهمية الموقع الجيواستراتيجي للسودان.
وقد تناولت مباحثات لافروف في الخرطوم القضايا الثنائية والإقليمية، وآليات رفع ميزان التبادل التجاري والاستثمارات الروسية في السودان، خاصة تلك المتعلقة بالبنية التحتية، إضافة إلى تفعيل وإنفاذ مُخرجات اللجنة الوزارية المشتركة التي انعقدت في موسكو، في عام 2022. وقد أبدى لافروف الدعم الروسي لسعي السودان إلى رفع العقوبات التي فرضها مجلس الأمن الدولي على البلاد، منذ عام 2005.
والمُلاحظ أن زيارة لافروف إلى السودان كان قد تزامن معها زيارة قام بها موفدو الولايات المتحدة الأمريكية والنرويج وبريطانيا وفرنسا لدعم الاتفاق الذي تم التوقيع عليه في ديسمبر الماضي، بين المدنيين والعسكريين، ودفع عملية المسار السياسي؛ بما يُشير إلى التنافس “الغربي الشرقي” على السودان، كدولة مهمة في منطقة شرق أفريقيا والقرن الأفريقي ومداخل البحر الأحمر.
دوافع متعددة
لعلّ تتبع مسار العلاقات الروسية السودانية، خلال العامين الأخيرين على الأقل، يُشير إلى أن موسكو تنتهج سياسة واضحة الأهداف في علاقتها بالخرطوم، لخدمة مصالحها في المنطقة، بما يتجاوز السودان نفسه. وكما يبدو فقد استهدفت زيارة لافروف إلى الخرطوم عدداً من الدوافع سواء منها السياسية أو الاقتصادية؛ فضلاً عن التعاون الأمني والعسكري.
1- تأمين الارتكاز البحري لموسكو في البحر الأحمر: في مؤتمره الصحفي مع علي الصادق، جاء إعلان وزير الخارجية الروسي عن أن “موسكو تنتظر موافقة الخرطوم على الصعيد البرلماني بشأن قاعدة بحرية مُقررة على البحر الأحمر”، مُؤكداً على أن “الاتفاق الذي تم توقيعه بالفعل يحتاج إلى التصديق عليه”، ومُشيراً في الوقت نفسه إلى أن “الاتفاق على إنشاء مركز دعم مادي للبحرية الروسية في السودان، هو في طور المُصادقة عليه”.
والمُلاحظ أن القاعدة اللوجستية في بورتسودان، تُعد مرحلة أولية أمام مشروع طويل الأمد تطمح روسيا من خلاله إلى تحقيق مجموعة من الأهداف في وقت واحد، أهمها: أن وجود منشأة عسكرية في بورتسودان، ولو كانت في البداية في صعيد لوجستي، فهي تؤشر إلى المحاولة الروسية لتأمين الارتكاز البحري لموسكو في السودان، مما يساهم في إمكانية التأثير على عمليات النقل للتجارة الدولية في البحر الأحمر؛ وهو ما يعني فرض روسيا نفسها كـ”لاعب متحكِّم” في معادلات الطاقة الجديدة، التي يمر جزء كبير منها عبر مضيق باب المندب.
إضافة إلى ما يُمكن أن يُتيحه المركز اللوجستي من تعزيز الأسطول الروسي لموقعه البحري في المحيط الهندي؛ مما يوفر مرفقَّاً آخر للمياه الدافئة، إلى جانب قاعدة طرطوس في سوريا، حيث يسمح ذلك للسفن الروسية بالمرور عبر خليج عدن والبحر الأحمر بهدف تأمين الإمداد والخدمات اللوجستية المختلفة.
2- تعزيز التعاون الأمني والعسكري في الساحل الأفريقي: يأتي هذا التعاون ليُمثل واحداً من أهم الأهداف الاستراتيجية الروسية من التقارب مع السودان؛ إذ إن روسيا تنظر من خلال علاقتها الحالية مع الخرطوم إلى ما وراء السودان من دول الساحل الأفريقي، في ظل صراع محتدم بينها وبين فرنسا على النفوذ في هذه الدول. وهنا، تبدو المحاولة الروسية في العودة إلى الخريطة الجيوسياسية في أفريقيا والطرق البحرية، وذلك من خلال استخدام السودان نقطة انطلاق إلى دول منطقة الساحل، خاصة في مالي التي تُمثل آخر النماذج التي شهدت تنامياً للدور الروسي في هذه المنطقة.
بل قد تزداد جهود روسيا مستقبلاً، ليس فقط في الساحل الأفريقي، ولكن في منطقة وسط أفريقيا، حيث نشاط مجموعة فاغنر في جمهورية أفريقيا الوسطى، مدعوماً بدورها في السودان؛ بما يستهدف نقل موارد المجموعة بين البلدين، بصورة باتت تُشكل مثلث النفوذ الروسي في المنطقة، الممتد بين السودان وأفريقيا الوسطى وليبيا؛ فضلاً عن وجودها في مالي.
3- السعي إلى الدعم السياسي وتفعيل النفوذ مع الدول العربية والأفريقية: إذ ليس من المُصادفة أن تأتي زيارة لافروف في توقيت يشهد فيه السودان زيارة 6 مبعوثين دوليين إلى الخرطوم، خاصة في ظل السعي الروسي إلى “التعاون في الجانب السياسي” مع الدول العربية والأفريقية، بحسب تصريحات لافروف نفسه، الخميس 9 فبراير، عقب اجتماعه مع رئيس مجلس السيادة السوداني، عبد الفتاح البرهان؛ مؤكداً أن “وجهات النظر متوافقة في عدد من الملفات الإقليمية، أبرزها ليبيا وسوريا والقضية الفلسطينية”.
واللافت أن أحد أهم الأهداف الاستراتيجية لروسيا، من وراء سعيها لتقوية نفوذها في السودان، هو محاولتها تأسيس نظام أمن إقليمي يحمي مصالحها، في منطقة البحر الأحمر والقرن الأفريقي، بهدف خدمة أهدافها في شرق أوروبا وشرق المتوسط؛ إلى جانب التهرب من حزمة العقوبات الغربية المفروضة عليها منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية قبل أكثر من عام، فضلاً عن السعي إلى كسب الدعم السياسي، خاصة في الأمم المتحدة ومجلس الأمن ومجلس حقوق الإنسان، عبر التحركات التي يقوم بها وزير خارجيتها، من خلال عدد من جولاته، خاصة في القارة الأفريقية، ومن بينها الحالية التي يأتي السودان في مقدمتها.
وتتبدى أهمية توقيت الزيارة، في هذه المرحلة الانتقالية التي يمر بها السودان، من حيث إن المكون العسكري، بشقيه: الفريق البرهان القائد العام للقوات المسلحة، وحميدتي قائد قوات الدعم السريع، هما الأقرب إلى روسيا، ربما أكثر من جانب كبير من القوى المدنية السودانية.
4- التعاون الاقتصادي ورفع ميزان التبادل التجاري بين موسكو والخرطوم: كما أن لزيارة لافروف أبعادها السياسية، فإن لها أيضاً أبعاداً اقتصادية وتجارية؛ حيث كانت من بنود الزيارة مناقشة بعض الجوانب الاقتصادية وتفعيل الاتفاقيات الثنائية، وآخرها اتفاقيات اللجنة الوزارية المشتركة بين السودان وروسيا، بالعاصمة موسكو، في أغسطس 2022. وقد أشار لافروف، في مؤتمره الصحفي مع وزير الخارجية السوداني المُكلف، علي الصادق، إلى أن “التعاون الاقتصادي والتجاري جيد مع السودان”، مُشيداً بدور السلطات السودانية “في تسهيل عمل الشركات الروسية، وجذب مزيد من الاستثمارات الروسية للسودان”.
وتأتي إشارة لافروف هذه لتؤكد على سنوات من التعاون الروسي السوداني في مجال التنقيب عن المعادن والنفط في السودان. إذ دخل سوقَ التنقيب السوداني، منذ عام 2017، عددٌ من الشركات الروسية، على رأسها شركة “فاغنر”، التي أطلقت بحثها عن الذهب من خلال شركتي “مروي جولد” و”إم إنفست”. أضف إلى ذلك، أن تواجد “فاغنر” في دارفور وجنوب كردفان، يعود إلى أن تلك المناطق غنية بالذهب واليورانيوم والمعادن الثمينة الأخرى؛ خاصة أنها بعيدة عن الرقابة الحكومية، وتنتشر فيها الحركات المُسلحة؛ فضلاً عن أنها مناطق واسعة تُعاني من سيولة أمنية، ومفتوحة على دول الساحل الأفريقي.
5- مواجهة النفوذ الأمريكي في القرن الأفريقي: حيث تستهدف زيارة لافروف إلى السودان، إضافة إلى الأبعاد الأمنية والعسكرية والسياسية والاقتصادية، محاولة مواجهة المخطط الأمريكي في التمدد إلى الداخل السوداني، ذلك الذي يُمثل خطورة على المصالح الروسية في منطقة القرن الأفريقي كلها، وليس فقط في السودان.
وتأتي الزيارة في وقت تستشعر فيه روسيا الخطر على مصالحها في السودان، بعدما ضيقت الولايات المتحدة الخناق على مجموعة فاغنر الروسية، وصنفتها “منظمة إرهابية”، وتسعى لإخراجها من السودان وليبيا. وبالتالي، تستهدف زيارة لافروف للسودان محاولة مواجهة السياسات الأمريكية، في ظل محاولات الأخيرة إيقاف تغول روسيا في القرن الأفريقي.
تفعيل النفوذ
في هذا السياق، يمكن القول إن اهتمام موسكو بالتقارب مع السودان يُفصح عن مشروع روسي طويل الأمد، يتخذ من السودان “بوابة جيواستراتيجية” إلى العمق الأفريقي، حيث وسط أفريقيا ومنطقة الساحل؛ خاصة أن روسيا تنتهز فرص سياسات “فك الارتباط” النسبي الأمريكي مع المنطقة. فبعد نجاحها في دخول مياه المتوسط عبر سوريا، وإنشائها قاعدة عسكرية بحرية في طرطوس، تحاول أيضاً مد نفوذها إلى مياه البحر الأحمر، عبر بوابة السودان، بما يُمثله من ثقل استراتيجي عاد إليه زخم التنافس الدولي في السنوات الأخيرة.