عقدت مؤسسة بطرس غالى للسلام والمعرفة (كيميت) فى ٣١ يناير ندوة حول الموضوع الذى يشير إليه عنوان المقالة، وقد افتُتحت الندوة بكلمة للسيد ممدوح عباس رئيس مجلس أمنائها تناولت أبعاد الموضوع كافة، بحيث طرحت الأسئلة الرئيسية التى تمحور حولها النقاش لاحقًا، فركز على بعدين رئيسيين، أولهما عالمى والثانى إقليمى، خاصة أن الدكتور عبدالمنعم سعيد أول المتحدثين طرحهما فى كلمته التى تميزت بالإيجاز والدقة، وقد كانت مداخلته هى الوحيدة التى أثارت قضايا نظرية، حيث ذهب إلى أن نشوب الحرب، قد أسقط نظريتين فى العلاقات الدولية، أولاهما أن توازن القوى مانع لنشوب الحرب والثانية أن الاعتماد المتبادل يمنع نشوبها كذلك، والواقع أن هذا يطرح على الباحثين مهمة جديدة مفادها تقصى الظروف التى أدت لذلك، وأغلب الظن أن طبيعة الأهداف والمصالح المتضمنة فى الحرب (أمن الدول وسلامتها الإقليمية) هى السبب الأصيل، علمًا بأن إحدى نظريات الاعتماد المتبادل تشير إلى إمكان أن يفضى إلى الحرب، ولكن عندما يتهدد هذا الاعتماد المتبادل، وليس عندما يتهدد هدف أكثر أهمية كما فى حالة الحرب فى أوكرانيا، كذلك ذكَّر الدكتور عبدالمنعم بأن الحروب العالمية أفضت عادة إلى ظهور قوى عظمى جديدة كحالة الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى بعد الحرب الثانية، وكحالة الصين التى وُلدت وفقًا له فى فبراير٢٠٢٢الذى شهد فى يومه الرابع الإعلان الصيني-الروسى الذى طالب بنظام دولى جديد، واعتبر الصين أول دولة عظمى تُولد دون أن تُطلق طلقة واحدة، ونظرًا لأنه ذكـَـر بالتنبؤات الأولية التى أشارت إلى حسم الحرب سريعًا لصالح روسيا ثم حالة التوازن الراهنة فقد امتد النقاش لاحقًا حول مآل الحرب وتداعياتها على النظام الدولى، ما بين الإشارة إلى ميلاد نظام جديد أو إصلاح النظام الراهن، وقد ختم الدكتور عبدالمنعم بالإشارة إلى نجاح فكرة الإقليمية الجديدة وإن حذّر من تكرار ما حدث سابقًا من حساسيات، وقد كان بالتأكيد محقا فى تحذيره، والواقع أن المداخلات اللاحقة كافة عدا الخلاصة التى قدمها الدكتور على الدين هلال خُصِّصت للقضايا الإقليمية.
وقد بدأت الدكتوره نيڤين مسعد بمناقشة القضايا المتعلقة بالقوى الإقليمية بالتركيز على إيران وتركيا فذكَّرت بأن لكلتا الدولتين مشروعها الإقليمى السابق على الحرب كما يظهر فى إيران منذ ثورة١٩٧٩، وفى تركيا منذ بداية حقبة إردوغان، وأشارت إلى تشابه فى موقف الدولتين من الحرب، فكلتاهما لا توافق على الغزو ولا تشارك فى العقوبات على روسيا، وكلتاهما حاضرة فى الحرب من خلال المسيرات وإن كانت تركيا قد زودت أوكرانيا بها بينما زودت إيران روسيا، وربطت بين هذا السلوك الإيرانى وبين التلميحات الأوكرانية بالتورط فى الهجوم الأخير على المنشأة الصناعية العسكرية الإيرانية، وفى المقارنة بين المكاسب السياسية التى حصلت عليها الدولتان كان واضحًا أن الميزان يميل لصالح تركيا التى ميزها عن إيران أنها مقبولة من طرفى الصراع، وبالتالى فقد حققت نجاحات محددة مثل قبول دعوتها للوساطة من الطرفين، وإن لم تنجح بسبب الضغوط الأمريكية على أوكرانيا وفقًا للرأى الروسى، كذلك نجحت فى التوسط فى أزمة الحبوب وقضية الأسرى، ووظفت هذه النجاحات فى مزيد من التعاون مع روسيا لحل مشكلة أكراد سوريا، وفى هذا الإطار أتى حديثها عن انفتاح تركى على النظام السورى وإن لم يُثمر حتى الآن، بينما بدا وكأن الدور الإيرانى فى الملف السورى قد تراجع لحساب الدور التركى، كما وضح من حلول التفاعلات الروسية-السورية-التركية، محل مثيلتها الروسية-الإيرانية-التركية، واستشرفت أثر هذا التطور على العلاقات الإيرانية-السورية فلم تُرجع التشدد الإيرانى مع سوريا فى قضايا الطاقة إلى اعتبارات اقتصادية أو رفض سوريا منحها امتيازات، وإنما إلى اختلال التوازن لمصلحة تركيا فى الملف السورى، كذلك أشارت إلى إصابة ملف الاتفاق النووى مع إيران بمزيد من الشلل والتعقد رغم حاجة الغرب إلى موارد الطاقة الإيرانية كبديل لمصادر الطاقة الروسية، غير أنها لم تُرْجِع هذا التعقد إلى السلوك الإيرانى تجاه الحرب وحده وإنما أيضًا إلى سلوكها تجاه الملف النووى، وبالذات رفضها التحقيق فى قضية الـ ٣ مواقع التى وُجدت بها آثار لنشاط نووى ولم يكن قد تم الإبلاغ عنها، وهكذا انتهت إلى أن ميزان المكاسب فى هذه الحرب قد مال لمصلحة تركيا.
أما الدكتور مصطفى الفقى فقد بدأ بتأكيد غياب الخطوط الفاصلة بين ما هو عالمى وما هو إقليمى، والإشارة إلى أن الموقف الراهن يشبه الموقف الذى ساد قبل الحرب العالمية الأولى من منظور صراع القوميات، وكذلك الإشارة إلى أن الغموض والترقب قد فرض نوعًا من غياب المواقف الحدية والتحالفات الكاملة، وفى النطاق العربى ركز على مسألتين أساسيتين أولاهما علاقة التحالف غير المباشر بين روسيا وإسرائيل، ولعل هذا يفسر الحساسية الروسية الشديدة تجاه أى حديث عن دعم إسرائيلى لأوكرانيا، والثانية استغلال إسرائيل المزيد من تهميش القضية الفلسطينية بسبب الحرب فى التصعيد ضد المقاومة الفلسطينية، ثم انتقل إلى تحليل الموقف العربى إزاء الحرب فبدأ بالتذكير بما تملكه بعض الدول العربية من موارد للطاقة بما وفر أوراقًا لها تم توظيفها فى إدارة الصراع، ثم أشار إلى طابع التوازن الذى ميز المواقف العربية تجاه الصراع، باستثناء الجزائر التى بدت متعاطفة مع الجانب الروسى بالإضافة إلى سوريا بطبيعة الحال لأسباب مفهومة، وختم الدكتور مصطفى بالإشارة إلى الحساسيات والتنافسات العربية على الأدوار القيادية، وهى قضية بالغة الأهمية بالنسبة لمستقبل النظام العربى بطبيعة الحال، وفى المقالة المقبلة بإذن الله أعرض المداخلتين المتبقيتين والمناقشات التى دارت فى الندوة.
نقلا عن الأهرام