نظرا لحالة الخلل الهيكلى التى تعانيها بعض الدول العربية، والتى أدت إلى تفجر الثورات وسقوط النظم، ذلك الخلل تمثل فى تركز التنمية فى مناطق وأقاليم معينة تتمحور حول العاصمة كبؤرة تركز سياسى واقتصادى. أو بعض المدن والأقاليم الجاذبة لقطاعات اقتصادية معينة كالسياحة أو التجارة الخارجية. أما باقى أقاليم الدولة فإنها قد تركت تعانى الفقر والجهل والتهميش الذى أدى وسوف يؤدى إلى حالة من عدم التماسك الاجتماعى والسياسى؛ قد تقود الى حالة من التفكك ومن ثم الحروب الأهلية.
فى ظل هذه الوضعية من الخلل الهيكلى فى خطط التنمية سوف تجد بعض الدول العربية نفسها مضطرة للأخذ بنظام اللامركزية فى الإدارة المحلية، وفى التنمية حتى تستطيع النهوض بالمناطق الفقيرة والمهمشة، التى لا يمكن النهوض بها، وتحقيق التنمية المنشودة فيها الا من خلال تطبيق اللامركزية فى الإدارة والحكم المحلى وفى خطط التنمية كذلك.
وعلى الرغم من أن بعض الدول العربية قد أخذت بنظام اللامركزية فى فترات تاريخية سابقة، فإن التجربة المتوقع حدوثها مستقبلا سوف تكون مختلفة عن التجارب التاريخية فى هذا المجال، حيث إنها ستكون لامركزية فى التخطيط والتنفيذ، وليست لامركزية شكلية فاقدة للجوهر والمضمون. حيث سوف تشهد نموذج اللامركزية المستقبلية درجات من التمييز الايجابى لمصلحة المناطق الفقيرة والمهمشة، وسيدفع المجتمع فى هذا الاتجاه، بحيث يتم تعويض المناطق التى عانت التهميش من خلال معاملة تفضيلية تسهم فى تدارك الفجوة التنموية بين مختلف مناطق الدولة.
وسوف تسير الدولة العربية فى المستقبل المنظور عكس حركة التاريخ. فإذا كانت الدول جميعها انتقلت من الاتحاد الكونفيدرالى إلى الدولة الفيدرالية، ثم أخيرا إلى الدولة الموحدة أو القومية، فإن الدولة العربية سوف تأخذ الاتجاه المعاكس وتنتقل من الحالة الموحدة أو البسيطة إلى الحالة الفيدرالية.
وتنفرد الدولة العربية والافريقية بهذه الخصوصية لأنها ظهرت للوجود بطريقة غير طبيعية، ورسمت حدودها القوى الاستعمارية بصورة لا تراعى الإنسان أو المجتمع، ولا تحترم خصوصية الجماعات البشرية وثقافاتها، وحدود وجودها وأنماط معيشتها، بل على العكس من ذلك تم تمزيق العديد من الجماعات البشرية بين أكثر من دولة.
والحال هكذا فإن رفع غطاء الدولة أو ضعف قبضتها، وبداية تحرك المجتمع وحصوله على درجة من القوة والاستقلالية سوف يؤدى إلى تفكك الدولة، أو إعادة صياغة كيانها بصورة تراعى خصوصية المجتمعات.
وعلى الرغم من أن هذه الحالة سابقة على الثورات العربية كما فى حالة العراق التى دفعها الاستعمار الأمريكى 2003 إلى حالة من الفيدرالية الواقعية، ثم القانونية فيما بعد، حيث بدأت تنفصل المكونات الثلاثة للدولة شعوريا واجتماعيا وسياسيا واقتصاديا وإقليميا، وتعالت الدعوات إلى الفيدرالية.
كذلك كانت حالة السودان التى دعت إلى الفيدرالية ولم تحصل عليها، وكان الانفصال هو المصير المحتوم لجنوب السودان من خلال عملية اختيار حر لشعب الجنوب، تثبت بما لا يدع مجالا للشك درجة الفشل التى وصل عليها النظام السياسى السودانى ومن ورائه الدولة والمجتمع، ثم انتقلت هذه العدوى من جنوب السودان الى غربه، والآن بدأت تظهر فى شرقه، وحالة سوريا أصبحت أقرب الى النموذج العراقى، وكذلك حالة ليبيا التى قد لا تجد مخرجا من أزمتها الا فى تطبيق نظام الحكم الفيدرالى.
وقد لا نبالغ إذا قلنا إن المستقبل القريب سوف يشهد حالات تكون فيها الفيدرالية الحلم أو الحل الأمثل لبقاء الدولة متماسكة وإن كان بصورة رخوة بدلا من تفككها وانقسامها، ولعل نموذج اليمن سيكون هو الأول فى سلسلة من الدول العربية الجمهورية التى فشلت فى تحقيق التوازن والعدالة فى عملية التنمية بين مناطق الدولة ومكوناتها الاجتماعية..
ومن جانب آخر قد تكون الفيدرالية هى طوق النجاة لبعض الدول مثل السودان التى قد تشهد متوالية من الانقسامات والانفصال والتفكك ما لم يتم الحفاظ على وحدة الدولة.
وسوف تلجأ بعض الدول العربية إلى الدخول فى خيار الفيدرالية لأغراض وظيفية، مثل تحقيق الأمن والمحافظة على الكيان كما فى حالة دول مجلس التعاون، أو تحقيق التنمية والازدهار الحضارى مثل حالة ليبيا والسودان أو ليبيا وتونس.
وفى كل تلك الحالات فإن الدولة العربية الموحدة قد لا تستمر طويلا فى المستقبل، المنظور، بل قد تدخل فى إطار التاريخ أسرع مما يتصور الكثير من علماء السياسة والمراقبون لتطورات الشأن العربى، حيث إن معظم هذه الدول خصوصا التى مرت بثورات الربيع العربى المشئوم، وانفجرت مجتماعتها وفقدت تماسكها، ونسيجها الاجتماعى الموحد، وبدأت مكوناتها الاجتماعية ومناطقها الجغرافية تنظر الى الدول ومواردها كغنيمة يجب اقتسامها، لأنها لم تنل حقها التاريخى فى عملية التنمية مثل باقى مناطق الدولة الأخرى.
هذه الحالة المعقدة جعلت الدولة العربية تسير فى خط تاريخى معاكس لصيرورة باقى المناطق الجغرافية التى تسعى للتقارب والتوحد والدخول فى حالات من الاتحاد الكونفيدرالى تمهيدا للوصول إلى الفيدرالية مثل الاتحاد الأوروبى.
نقلا عن الأهرام