لا يحتاج المرء إلى الكثير من الجهد ليلاحظ أن منافسة إعلامية عربية حادة تتفاعل راهناً، وأن تلك المنافسة تُوظف لها كوادر مميزة، وتُخصص لها موارد ضخمة، وتعززها إرادات سياسية واضحة، كما سيمكن أيضاً ملاحظة أن تلك المنافسة تستقطب أطرافاً تحظى بمواقع متقدمة في قوائم القوة والنفوذ السياسي والاقتصادي على الصعيد الإقليمي.
يُعيد هذا التحليل التذكير بمفهوم «القوة الناعمة»، الذي جرى استخدامه من دون حذر في الواقع العربي على مدى ثلاثة عقود، مما أدى إلى سيادة مفهوم مُخلٍ ومبتسر أشاع أنها «منقطعة الصلة عن القوة الصلبة وأعمدتها العسكرية والاقتصادية والسياسية، وأنها يمكن أن تعوّض غياب تأثير القوة الصلبة، وأنها امتياز تاريخي تقليدي لا يمكن سحبه أو تهافت قدرته على الفعل والتأثير».
ولأن الإعلام يقع في قلب مفهوم «القوة الناعمة»، ويمثّل إحدى أهم أدواتها الفعالة، فقد التفتت الدول المؤثرة في الإقليم مبكراً إلى ضرورة الاستثمار فيه، وعلى مدى الفترة من منتصف القرن الفائت ظل التأثير الإعلامي قادراً على الإفصاح عن طبيعة المنافسة الإقليمية، وقادراً أيضاً على ترتيب مكانات الأطراف المتنافسة إلى حد ما.
يعتقد كثيرون أن مفهوم «القوة الناعمة» ظهر لأول مرة بمعناه الحالي، في العام 1990. في مقال كتبه جوزيف ناي، بروفسور العلوم السياسية جامعة هارفارد في دورية «السياسة الخارجية»، تحت عنوان «القوة الناعمة: استخدام الجاذبية والإقناع لتحقيق أهداف السياسة الخارجية للدولة». وفي أبسط صورة ممكنة، يشرح ناي مفهوم «القوة الناعمة» باعتبارها «قدرة الدولة على تحقيق الجذب والتأثير من دون إجبار وإكراه». وبمعنى آخر فهي «قدرة الدولة على خلق مطاوعة لإرادتها وسياساتها لدى الآخرين عبر الإقناع، ودون حاجة إلى القوة الصلبة».
لكن ناي لم يكن هو الوحيد الذي تصدّى لمحاولة تعريف «القوة الناعمة»؛ إذ أدلى الفيلسوف الفرنسي الراحل ميشيل فوكو بدلوه أيضاً في هذا الصدد، عادَّاً أنها «إجبار وإلزام غير مباشرين، وسجال عقلي وقيمي يهدف إلى التأثير في الرأي العام داخل الدولة وخارجها»، كما ميّزها عن الدعاية السياسية المباشرة.
ورغم أن هذا الاتفاق على التعريف يعني أنها مفهوم يتعلق بـ«قدرة الدولة على خلق مطاوعة لإرادتها وسياساتها لدى الآخرين عبر الإقناع، ودون حاجة إلى القوة الصلبة»، فإن هذين العالمين البارزين لم ينقضا الصلة بينها وبين نظيرتها «الصلبة»، بل أكدا أنها تعمل بالضرورة داخل نطاق إرادة الدولة وأهدافها، وأنها تمتزج مع «القوة الصلبة» لتشكيل القوة الشاملة للدولة، كما أن توظيفها بحصافة مع شقيقتها «الصلبة» يُنتج ما وصفه ناي لاحقاً بـ«القوة الذكية».
وعلى عكس ما يعتقد كثيرون، فإن مفهوم «القوة الناعمة» بات يخضع لمؤشرات عديدة لقياسه وتعيينه تعييناً منضبطاً، وهي مؤشرات تتضمن عناصر مختلفة، لكن ثمة إجماعاً على أن الثقافة – متضمنة الإعلام -، تقع ضمن أهم تلك المؤشرات. ومن بين المحاولات الجادة التي حاولت أن ترسي معايير لقياس «القوة الناعمة»، تلك المحاولة التي أثمرت «مؤشر بورتلاند»، الذي يحدّد ستة عناصر لقياس «القوة الناعمة» في أي دولة، ويبرز بينها مفهوم «النفاذية الثقافية»، التي تتضمن الإنتاج الإعلامي، والتواصل الرقمي للدولة.
سيكون مفهوم «النفاذية الثقافية» ضرورياً لفهم الكثير من الأنشطة التي تجري في عدد من بلدان المنطقة راهناً. وهي نفاذية تستخدم آليات الجذب المعروفة؛ مثل السياحة، والرياضة، والفن، والإبداع، والغناء، وإحياء التراث، ومقومات الضيافة، والتقديم البارع والمُحبب لأنماط العيش وأساليب الحياة.
وسيكون الإعلام رافعة أساسية لتقديم تلك الآليات، وعبره ستجتهد القوى المتنافسة في أن تعكس التفوق والريادة، وستسعى للاستئثار بقدر وافر من الاعتماد، الذي سيحققه جمهور يمتد من المحيط إلى الخليج، سيحفل بالجديد والجاذب والمُبدع، وسيُكرس مكانات جديدة للقوى المتنافسة، بعيداً عن الأدوار التاريخية.
وسيكتشف الباحثون المدققون في هذا الصدد أن الأدوار الجديدة في إطار استخدامات «القوة الناعمة» تستند إلى عناصر تفوق واضحة في المجالات السياسية والاقتصادية، وأنها تحظى بدعم واضح على صعد كفاءة أنظمة التعليم والإدارة والتفوق الرقمي.
وإضافة إلى ذلك، ستسقط ذريعة أن «القوة الناعمة» يمكن أن تعوّض تضعضع مقوّمات «القوة الصلبة» وتراجعها، كما سيثبُت خطأ فكرة أن التفوق الإعلامي كمقوم جوهري لـ«القوة الناعمة» يعكس أوضاعاً تاريخية واستحقاقات تقليدية.
تكشف المنافسة الإعلامية العربية الراهنة عن ترتيب جديد للدول المتنافسة على صعيد «القوة الناعمة»، وهو ترتيب يتّسق بدرجة كبيرة مع ما تتمتع به من مقومات «القوة الصلبة»، كما أنه لا يحفل كثيراً بالاعتبارات التاريخية والأدوار التقليدية التي تنتمي لحقب تجاوزتها الأحداث.
نقلا عن الشرق الأوسط