تبدي روسيا اهتماماً واسعاً بتعزيز علاقاتها مع دول شمال وغرب أفريقيا، على نحو تعكسه الجولة التي سيقوم بها وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف، حسب تقارير عديدة، ويزور خلالها المغرب وتونس وموريتانيا، وذلك بعد الجولة التي قام بها في نهاية يناير الحالي. وبالطبع، فإن الجولة الجديدة، والتي سيقوم بها لافروف في فبراير القادم، يبقى الهدف الأساسي منها هو إيجاد منافذ جديدة للعلاقات التجارية والتعاون السياسي، لتجاوز العقوبات التي تفرضها الدول الغربية، رداً على الحرب الروسية في أوكرانيا.
وأمام عودة القطب الأمريكي من جديد إلى الواجهة في القارة الأفريقية، تبتغي موسكو بدورها منافسة واشنطن في معاقل نفوذها السياسي، بعد إعلان الرئيس الأمريكي جو بايدن مراجعة السياسات الأمريكية الموجهة لـ”القارة السمراء”، التي كانت تفتقد إلى الأهمية الاستراتيجية لصانع القرار في واشنطن خلال المرحلة الماضية.
أهداف رئيسية
تسعى روسيا عبر هذه التحركات إلى تحقيق أهداف أربعة رئيسية تتمثل في:
1- استقطاب الدعم في ملفات عديدة: تحاول روسيا عبر إدراج المغرب في جولة لافروف الأفريقية الثانية استقطاب دعم الرباط في العديد من القضايا ذات الصلة بالقارة الأفريقية، لا سيما الملفات المرتبطة بالمحاور الأمنية والاقتصادية والاجتماعية لمنطقة الغرب الأفريقي، خاصة أن روسيا تعتبر أن العلاقات مع المغرب تكتسب أهمية خاصة لبلوغها السوق في هذه المنطقة وتنمية المشاريع فيها.
وتعتمد موسكو على جانبين مهمين في توطيد علاقاتها ومحاولتها استقطاب دعم المغرب: أولهما، تقوية التعاون السياسي بين موسكو والرباط، إذ بدت في السنوات الأخيرة ملامح اتخاذ موسكو لمواقف أكثر حيادية في قضية الصحراء، عكس مواقفها السابقة، خاصة في ظل التطور الإيجابي في العلاقات بين الرباط وموسكو. وقد ظهر هذا التطور في العديد من القضايا، من بينها رفض المغرب التصويت ضد روسيا في مجلس الأمن، لإدانة تدخلها في أوكرانيا، أو التصويت على قرار فرض العقوبات ضد موسكو. ويبدو أن موسكو لا ترغب في فقدان المغرب كـ”شريك” يُقدم الكثير من الحلول لروسيا، في مجالات متعددة؛ كالصادرات الزراعية، وتسهيل عبور الطائرات والسفن الروسية، وهو الأمر الذي يُفسر مواقف روسيا الأخيرة من قضية الصحراء.
وثانيهما، تفعيل العلاقات الاقتصادية مع المغرب، حيث صاحبت التطورات الإيجابية في العلاقات الثنائية السياسية والدبلوماسية، بين المغرب وروسيا، تطورات أخرى إيجابية على الصعيد الاقتصادي؛ إذ ارتفعت المعاملات التجارية بين البلدين بشكل كبير في السنوات الأخيرة، وخاصة بعد الزيارة التي كان العاهل المغربي الملك محمد السادس قد قام بها إلى موسكو، في عام 2016.
وفي هذا الإطار، منحت المغرب تراخيص لعشر سفن بحرية روسية، في الأشهر الثلاثة الأخيرة، من أجل الصيد في المياه المغربية، بالرغم من العقوبات الغربية على موسكو؛ كما أن المغرب لازالت تتيح أجوائها لعبور الطائرات الروسية بعد إغلاق أوروبا لمجالها الجوي أمامها.
2- محاولة تحييد الأدوار المحتملة: تسعى كل من روسيا وحلف شمال الأطلسي “الناتو” إلى الحصول على تأييد موريتانيا، بعد تصدع مجموعة دول الساحل الأفريقي الخمس، وتثبيت موسكو لتموضعها في مالي، وتحركها نحو بوركينافاسو، وسعيها للتواجد على الساحل الأطلسي، في مواجهة الجناح الجنوبي للحلف. وتحاول روسيا عبر ذلك الرد على محاولة الناتو تطويقها من الغرب والشرق، من خلال البحث عن فضاءات حيوية في شمال أفريقيا، وغربها، لتهديد جناح الحلف الجنوبي، سواء من ليبيا أو من موريتانيا.
وتعتمد موسكو، في محاولتها هذه، على آليتين: الأولى، إبعاد موريتانيا عن مخططات الناتو، ولعل تكثيف قيادات عسكرية أمريكية وأوروبية زياراتها إلى نواكشوط، ولا سيما المناطق الشمالية والشرقية الحدودية مع كل من الجزائر ومالي، بات يُثير القلق الروسي؛ خاصة في ظل الحديث عن رغبة حلف الناتو في إقامة قاعدة عسكرية مركزية في موريتانيا.
ولأن الناتو لا يسعى من وراء إقامة قاعدة عسكرية في موريتانيا، لمكافحة الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي وحسب؛ بل، محاولة تقويض أي مساعي لروسيا للتمدد نحو موريتانيا وساحل المحيط الأطلسي، وتهديد الجناح الجنوبي للحلف، لذا تأتي زيارة لافروف إلى موريتانيا لبحث مسألة إقامة قاعدة عسكرية للحلف على أراضيها، مع المسئولين الموريتانيين، الأمر الذي من شأنه تهديد تواجد “فاغنر” الروسية في مالي؛ كما تُمثل محاولة روسية لاستقطاب موريتانيا، أو على الأقل تحييدها عن أي صراع مُرتقب مع الغرب في منطقة الساحل الأفريقي.
والثانية، تفعيل التعاون العسكري مع نواكشوط، لا سيما أن موريتانيا تحاول استغلال موقعها الاستراتيجي، والتنافس الدولي لاستقطابها، لتحقيق مكاسب على عدة أصعدة، سواء الاقتصادية منها أو العسكرية.
وعلى ضوء ذلك، من المتوقع أن تعرض موسكو على نواكشوط تعزيز تعاونهما العسكري. فموريتانيا، رغم تعاونها الوثيق مع فرنسا والولايات المتحدة، إلا أنها وقعت اتفاقية عسكرية مع موسكو، في يونيو 2021. ومن شأن هذه الاتفاقية العسكرية أن تكون بوابة روسيا لزيادة نفوذها في هذه الدولة التي تمتلك موقعاً استراتيجياً يصل منطقة المغرب العربي بدول منطقة غرب أفريقيا؛ على الأقل من منظور أن الاتفاقية هي أقرب إلى الرد على عدم إيفاء فرنسا بالتزاماتها تجاه مجموعة الساحل، سواء مالياً أو عسكرياً.
3- إرساء أسس التعاون الاقتصادي: رغم الجدل الواسع الذي صاحب قضية “الكشف عن شبكة تجسس”، تعمل لصالح روسيا في تونس، في يوليو 2015، إلا أن الفترة التالية شهدت تحولاً مفاجئاً في العلاقات. فقد بدأت بعض المحاولات في اتجاه إرساء أسس للتعاون الاقتصادي وتطوير التبادل التجاري، والسعي لتوقيع اتفاقيات شراكة للتبادل الحر؛ فضلاً عن اتفاقية أخرى لاعتماد الروبل الروسي والدينار التونسي في المبادلات التجارية بين البلدين، إضافة إلى إنشاء خط بحري بين ميناء صفاقس وميناء نوفرسيسك الروسي على البحر الأسود، لدفع السياحة الروسية إلى تونس، ومحاولة رفع عمليات التصدير للمنتجات التونسية إلى روسيا.
وتعتمد المقاربة الروسية في العلاقات مع تونس، على عاملين اثنين: أولهما، محاولة التخلي عن الحذر السياسي، فالتعاون الذي تنوعت أوجهه، خلال السنوات الأخيرة، ومن بينها التعاون في إطلاق أول قمر صناعي تونسي يحمل اسم “تحدي 1″، في 22 مارس 2021، لا يخفي جملة التحديات التي تمر بها العلاقات التونسية-الروسية اليوم، تبعاً للتغيرات المتسارعة على الساحة الدولية. إذ لا زالت روسيا تنظر بعين الحذر تجاه التصويت التونسي لصالح قرار صادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة أدان الغزو الروسي لأوكرانيا، على عكس الجزائر والمغرب، اللتين امتنعتا عن التصويت.
ورغم أن هذا الموقف، يُفهم منه، من قبل تونس، على أنه نوع من الاستجابة للضغوط الغربية، فإن العلاقات التونسية-الروسية تقف اليوم في مرحلة مصيرية؛ حيث تأتي زيارة لافروف المتوقعة إلى تونس، كمحاولة للتخلي عن الحذر السياسي تجاهها، وإعادة تفعيل العلاقات السياسية معها.
وثانيهما، محاولة دعم تونس لمواجهة الأزمة الاقتصادية بما يمكن أن يعود بمكاسب استراتيجية على روسيا، خاصة في ظل تراجع الدعم من جانب بعض الحلفاء التقليديين من الدول الأوروبية.
4- توسيع نطاق الخيارات الدولية المتاحة: يمكن القول إن الجولة الجديدة التي سيقوم بها لافروف ترتبط بمحاولة موسكو توسيع نطاق الخيارات المتاحة أمامها على الساحة الدولية، وهو ما ركزت عليه روسيا في الآونة الأخيرة لمنافسة الولايات المتحدة والدول الأوروبية، وخاصة فرنسا، في منطقة الساحل الأفريقي، وغرب أفريقيا عموماً، على نحو يفسر سعيها إلى تنشيط علاقاتها مع دول شمال غرب أفريقيا “العربية”، في ظل استمرار الحرب في أوكرانيا.
أجندة جديدة
على ضوء ذلك، يمكن القول إن روسيا تسعى إلى تشكيل “أجندة” دولية وإقليمية جديدة، من خلال الجولات التي يقوم بها لافروف في القارة الأفريقية، وذلك بهدف تقديم رؤيتها للنظام الدولي الجديد؛ وبلورة علاقات قوية مع تلك الدول المهمة في منطقة شمال غرب أفريقيا، على نحو لا ينفصل عن تزايد الاهتمام الدولي بالقارة في سياق التحولات الجديدة التي طرأت على النظام الدولي في الفترة الأخيرة، خاصة بعد اندلاع الحرب الروسية-الأوكرانية.