مع نهاية كل عام، تتنافس مؤسسات ومراكز بحوث ومفكرون فى وضع تصوراتهم عما يمكن حدوثه فى العام الجديد. وبعيدا عن الحسم لأى من الخيارات المحتملة، يمكن رصد عدد من التحديات التى سوف يتعين على العالم بأسره التعامل معها. أول تلك التحديات يتجلى فى شطط القوى الكبرى فى استخدام القوة بكل مكوناتها, الاقتصادية عن طريق العقوبات، والعسكرية بشن الحروب والعمليات العسكرية فى أراضى الغير، والتحالفات من أجل محاصرة الآخر المتوهم أنه عدو أو تهديد. هذا الشطط فى سلوك أطراف القمة ينعكس فى سلوك القوى الأصغر عالميا ولكنها تمثل قوة إقليمية فى محيطها المباشر، للقيام بأمور مشابهة فى نطاق جغرافى محدد، مثال الاحتلال الاسرائيلى فى فلسطين المحتلة. هذا الشطط يضرب فى الصميم ما يعرف بالقواعد الحاكمة للنظام الدولى، ويفضى من جانب آخر لنشوء قواعد جديدة قوامها الفوضى.
والمرجح أن تستمر الحرب فى أوكرانيا طوال العام الجديد، بكل تداعياتها الانسانية على الاوكرانيين وتداعياتها الاقتصادية والامنية على باقى دول العالم. وأيا كانت الطريقة التى ستنتهى بها تلك الحرب الضروس، فقد فتحت الباب أمام تحولات كبرى فى العلاقات الدولية. فالحديث عن نظام تعددية قطبية يحقق كل يوم خطوة للأمام، قوى عديدة لكل منها نموذج حكم وأسلوب حياة باتت مؤثرة فى عملية صنع القرار الدولى. فى المقابل ثمة شراسة أمريكية فى الدفاع عن هيمنتها وسطوتها الدولية. ولا تعنى التعددية القطبية اختفاء الدور والتأثير والنفوذ الأمريكى، بقدر ما يعنى تقلص حجم التأثير وبروز مؤثرين آخرين ينافسون هذا القدر المتبقى من التأثير. فى الغالب سيكون هناك أيضا تحولات فى دور ومكانة مؤسسات بريتون وود، وتحولات مكانة الدولار الأمريكى فى التجارة الدولية. وغالبا ستحدث ببطء نسبى خلال العقد المقبل، وسيكون العام الجديد مجالا للعديد من التغيرات المنتظرة عالميا.
وثمة اهتزاز عنيف وعميق للمركزية الغربية للنظام الدولى. فالعولمة والانفتاح على الآخر فى صيغتها الاولى باتت فى خبر كان، وتفرز الآن نموذجا آخر قوامه الانقلاب على الذات. فالسياسات الحمائية والمواقف الانتقائية تشكل بيئة دولية جديدة لها محاذيرها كما لها مخاطرها الشديدة. العالم على أبواب عولمة جديدة بمسارات جديدة غير معروفة بعد، ولها ارهاصات مختلفة تتجلى فى بروز العديد من الاشكاليات القانونية والاخلاقية والانسانية، فعلى سبيل المثال، فالإجراءات التى تقوم بها الولايات المتحدة والدول الغربية وحلفاؤها من قبيل فرض عقوبات اقتصادية وقيود تجارية وسقوف لاسعار سلع استراتيجية تهم العالم بأسره كالنفط والغاز، تضرب فى الصميم كل مبادئ واتفاقات حرية التجارة العالمية، وتعيد الاعتبار لأفكار الانكماش والتقوقع على الذات، بغض النظر عن تأثيرات ذلك على الحلفاء والاصدقاء قربيين كانوا أم بعيدين.
وأبرز الامثلة أن قانون مكافحة التضخم الأمريكى بات يمثل نموذجا فجا من حيث التجاهل التام لمصالح الحلفاء الأوربيين وغيرهم كاليابان وكندا واستراليا وآخرين، فهؤلاء يصرخون من تأثيراته على الاستثمار وحيادية المنافسة الحرة والتجارة. لكن الآذان الأمريكية لا تعبأ ولا يهمها أن تستمع لصوت الحلفاء. هذا الإهمال لمصالح الحلفاء، يجب التنبه له ووضعه فى الاعتبار عند وضع حسابات المستقبل، القريب والبعيد معا.
لقد أجهز العام المنصرم على الأيديولوجيات الكبرى، فالاشتراكية، والليبرالية والرأسمالية والقومية العربية، اصبحت جميعها نماذج تاريخية، وكلها تواجه التعديلات الكبرى التى ستفرز بدورها نماذج فكرية وسياسية مختلفة. يصاحب ذلك أن كثيرا من الشعارات ذات الصلة بإحدى هذه الايديولوجيات فقدت بريقها وثبت زيف من ينادى بها، كحال ادعاءات حقوق الانسان فى صيغتها الأوروبية الأمريكية، والتى تحولت إلى أداة للابتزاز السياسى لدول بعينها مطلوب محاصرتها، والتغاضى العمدى عن مأس وانتهاكات جسدية لحقوق الانسان، كما هو الحال فى فلسطين على أيدى احتلال استيطانى غاشم، ما جعل شعارات حقوق الانسان فاقدة قيمتها الردعية المعنوية.
ومن أبرز تحديات العام 2023 وما بعده لسنوات اخرى، الحفاظ على الهويات الوطنية بمحمولاتها السلوكية والدينية والانسانية، والتى تتعرض لحالة تغير كثيف ومتسارع بفعل ثورة الاتصال والسوشيال ميديا. وهى أزمة تمتد لتشمل الكل، بما فى ذلك المجتمعات الغربية التى تندفع نحو التحلل من كل القيم والاخلاقيات وترك الإنسان الفرد والجماعة الوطنية يفعلون ما يحلو لهم بدون اى قيود أى روادع دينية أو أخلاقية أو فطرية طبيعية، ما يفرز تحديات ضخمة، تفرض بدورها أساليب تربية وتنشئة مختلفة تراعى القيم الأصيلة للمجتمع.
تمتد التحديات الماثلة إلى بروز مخاطر شديدة للذكاء الاصطناعى إذا ما برع صانعوه فى تحويله إلى أداة لقهر الانسان والسيطرة عليه وفقدانه السيطرة على منتجاته. وبقدر ما يتيح الذكاء الاصطناعى للبشرية فتوحات علمية فى الفضاء وفى الأرض، بقدر ما يطرح إشكاليات مجتمعية واقتصادية لا حدود لها. ووجودية أيضا من حيث احتمال أن أنظمة الذكاء الاصطناعى فى الوسائل والاسلحة العسكرية أن تطور لغتها الخاصة، وتدخل فى منافسات مع نظم ذكية أخرى، وتشن حروبا لا علم للإنسان بها ولا مقدرة له على السيطرة عليها. والمرجح ان العام 2023 سيشهد فورة كبرى فى صناعة أدوات وبرمجيات الذكاء الاصطناعى بين أكبر ثلاث قوى محركة له، وهى الولايات المتحدة والصين وروسيا. أما المستهلكون والمنبهرون فهم خارج دائرة الفعل أو حتى ضبط إيقاعه وتداعياته. ومع كل المخاطر المحتملة فليس هناك مفر من التعامل مع هذا المجال المثير والمفيد والمقلق معا، مع التركيز على ضرورة وضع ميثاق أخلاقى تلتزم به الدول الصانعة يضمن حدا ادنى من سيطرة البشر على تلك المنتجات الذكية ذاتيا.
نقلا عن الأهرام