بعد أن فشلت الإجراءات التي اتبعها النظام الإيراني في التعامل مع الاحتجاجات التي تجاوزت يومها المائة، بدأ في اتخاذ خطوات تكتيكية جديدة يحاول من خلالها تعزيز موقعه في مواجهة الاحتجاجات، بعد أن فرضت ضغوطاً قوية، لا سيما أنها استقطبت اهتماماً ودعماً دولياً بارزاً، أضفى عليها نوعاً من الخصوصية عند مقارنتها بالاحتجاجات السابقة، رغم أن هذا الدعم لم يفرض تأثيرات قوية على سياسات النظام حتى الآن.
فبعد أيام قليلة، وتحديداً مع بداية العام الجديد، سوف تبدأ إيران في تنظيم فعاليات عديدة بمناسبة حلول الذكرى الثالثة لمقتل القائد السابق لـ”فيلق القدس” التابع للحرس الثوري قاسم سليماني، في 3 يناير 2023، برفقة نائب أمين عام مليشيا الحشد الشعبي العراقية أبو مهدي المهندس، في العملية العسكرية التي شنتها الولايات المتحدة الأمريكية في هذا اليوم، بعد تصاعد حدة التوتر بين واشنطن وطهران، حول الملف النووي والتدخلات الإقليمية الإيرانية.
وكان لافتاً أنه بالتوازي مع ذلك، حرصت إيران على توجيه انتقادات للقرار الذي اتخذته حركة “طالبان” الأفغانية، في 21 ديسمبر الجاري، بمنع النساء من دخول الجامعات، وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية ناصر كنعاني في هذا السياق: “إن جمهورية إيران الإسلامية، بصفتها جارة لأفغانستان ومهتمة بالسلام والاستقرار والتنمية في هذا البلد، تأسف لسماع نبأ وجود معوقات أمام التعليم الجامعي العالي للفتيات والنساء في أفغانستان”.
ولم تكتف إيران بذلك، بل أبدت استعدادها للمشاركة في جهود استيعاب الطالبات الأفغانيات في جامعاتها، خاصة عبر آلية التعليم عن بُعد. وفي هذا السياق، أعلن رئيس معهد التعليم عن بُعد بجامعة بيام نور بهمن زندي عن استعداد هذه الجامعة لقبول الطالبات الأفغانيات للتعليم الافتراضي والتعليم عن بُعد.
دوافع عديدة
يمكن تفسير هذه الخطوات التي اتخذتها إيران أو تستعد لاتخاذها في ضوء اعتبارات عديدة يتمثل أبرزها في:
1- تأكيد عدم تقديم تنازلات إقليمية: يوحي استعداد إيران لإحياء ذكرى مقتل سليماني، بأن النظام الإيراني يسعى إلى توجيه رسائل إلى الداخل والخارج، تفيد أنه ليس في وارد تقديم تنازلات ترتبط بتدخلاته الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط، رغم الضغوط القوية التي يتعرض لها في الوقت الحالي.
إذ كان لافتاً أن المحتجين حرصواً على تأكيد أن قسماً من الأسباب التي دفعت إلى الاحتجاج يتمثل في السياسة التي يتبعها النظام والتي تقوم على استنزاف موارد إيران في الإنفاق على تعزيز التمدد في الخارج ودعم المليشيات الموالية له.
وقد انعكس استياء المحتجين من الدور الإقليمي الإيراني في حرص بعضهم على إحراق صور وتماثيل سليماني في بعض المدن الإيرانية، باعتبار أنه كان رمزاً للعمليات الخارجية الإيرانية التي كان يقودها قبل 3 يناير 2020.
2- التلميح بإمكانية العودة إلى سياسة الاستهداف: ربما يؤشر ذلك إلى احتمال عودة إيران إلى تبني سياسة استهداف مصالح خصومها، وهى السياسة التي تراجعت نسبياً خلال الشهور الأخيرة، سواء بفعل التطورات السياسية والميدانية التي طرأت على بعض الدول، وفي مقدمتها العراق، حيث تم تشكيل حكومة برئاسة محمد شياع السوداني ينتمي معظم أعضاؤها إلى القوى الموالية لإيران، أو بفعل انهماك النظام الإيراني في مواجهة الاحتجاجات التي قاربت على تجاوز شهرها الرابع، دون أن تتراجع حدتها رغم كل الإجراءات التي اتخذها بدءاً من اعتقال ما يقرب من 20 ألف شخص، مروراً بفرض قيود شديدة على شبكة الإنترنت، وانتهاءاً بتنفيذ بعض أحكام الإعدام بحق عدد من المحتجين، على نحو أدى إلى اقتراب عدد القتلى من 500 شخص.
وقد كان لافتاً أنه بالتوازي مع ذلك، عاد المسئولون الإيرانيون إلى توجيه تهديدات إلى بعض القوى التي يتهمونها بدعم المحتجين، حيث قال الرئيس إبراهيم رئيسي، في 27 ديسمبر الجاري، أن “إيران سوف تتصدى بلا رحمة لكل من يعادونها”.
3- إلقاء الضوء على الوضع التعليمي للمرأة الإيرانية: حاولت إيران عبر إبداء استعدادها للمشاركة في جهود حل المشكلة التي تسبب فيها قرار حركة “طالبان”، إلقاء الضوء على الوضع التعليمي “المتميز” للنساء في إيران، وهي خطوة تسعى من خلالها إلى الرد على الاحتجاجات التي اندلعت في الأساس بسبب وفاة الفتاة العشرينية مهسا اميني على أيدي عناصر شرطة الأخلاق الذين اتهموها بعدم الالتزام بقواعد ارتداء الحجاب. ففي هذا السياق، أشارت تقارير عديدة إلى أن إيران لديها أكثر من 200 جامعة ومعهد للتعليم العالي، وأن نسبة المرأة الإيرانية من خريجي الجامعات تصل إلى أكثر من خمسين بالمائة.
لكن هذه المحاولة لن يكتب لها النجاح، على الأرجح، خاصة أن المحتجين حرصوا على تأكيد أن أسباب الأزمة الحالية لا تنحصر في القيود المفروضة على الحريات الاجتماعية، وإنما تصل إلى التوجهات العامة للنظام نفسه، والتي فرضت مشكلات معيشية مزمنة لم تنجح إجراءات الحكومات المتعاقبة في احتواء تداعياتها.
بل إن “طالبان” نفسها أدركت مغزى الانخراط الإيراني في الجدل الذي فرضه قرارها، على النحو الذي دفعها إلى المسارعة بالرد على الموقف الإيراني بالإشارة أيضاً إلى الأزمة الداخلية التي تواجهها طهران. ففي هذا السياق، نشر الحساب التابع لوزارة خارجية “طالبان” على موقع “تويتر”، تغريدة، رداً على انتقادات إيران، جاء فيها: “الأفضل لهم إقناع النساء المحتجات في بلادهم وألا يحاولوا، باسم التعاطف، لفت النظر عن مشاكلهم الداخلية إلى بلدنا”.
4- توجيه الانتباه إلى الأزمات الخارجية المختلفة: سعى النظام الإيراني، ضمن الآليات التي يتبناها من أجل احتواء الاحتجاجات، إلى شن حملة إعلامية يحاول من خلالها التركيز على الأزمات التي تواجهها بعض دول الجوار، بالتوازي مع الترويج إلى مزاعم حول أن إيران تعد إحدى القوى الإقليمية التي تسعى إلى تعزيز جهود تحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة.
وفي هذا الإطار، كان لافتاً اهتمام وسائل الإعلام الإيرانية بتغطية بعض أحداث العنف التي تقع في أفغانستان وباكستان، خلال الفترة الأخيرة. بل إن إيران استغلت الاحتجاجات التي شهدتها فرنسا، من أجل الرد على الدعم الفرنسي للمحتجين الإيرانيين، حيث دعا المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية ناصر كنعاني، في 25 ديسمبر الجاري، الشرطة الفرنسية إلى ممارسة ضبط النفس في التعامل مع الاحتجاجات السلمية.
نهج مستقر
على ضوء ذلك، يمكن القول في النهاية إن النظام الإيراني يبدو مصراً على اتباع النهج نفسه الذي يتبناه في التعامل مع الاحتجاجات التي اندلعت منذ منصف سبتمبر الماضي، على نحو يوحي بأن الضغوط التي فرضتها هذه الاحتجاجات لن تدفعه إلى تقديم تنازلات لا في الملفات الداخلية، ولا في الملفات الخارجية، لا سيما فيما يتعلق بالتدخلات الإيرانية المتكررة في الشئون الداخلية لدول المنطقة.