شهدت منطقة الشرق الأوسط خلال عام ٢٠٢٢ حضوراً مكثفاً للقوى الدولية، في أعقاب الحرب الروسية-الأوكرانية، وما رتبته من تداعيات على أسعار الطاقة في السوق العالمية، والتي كان لها تأثيرات متزايدة على اقتصاداتها التي تتعافى تدريجياً من تداعيات جائحة كوفيد-١٩، وهو ما توازى مع تزايد البحث عن مصادر بديلة للنفط والغاز الروسيين، بعد القرارات الأمريكية والأوروبية بفرض عقوبات على صادرات الطاقة الروسية؛ لإرغام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على وقف حربه على كييف، والتي تنظر إليها الدول الغربية على أنها “غير مبررة”.
وقد استغلت روسيا والصين التحولات في السياسة الأمريكية لتقليل الانخراط في المنطقة، في إطار استراتيجية واشنطن للتحول تجاه آسيا؛ بهدف تثبيت نفوذهما في الشرق الأوسط، وإقامة شراكات متنوعة مع دول المنطقة، ولا سيما حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية، لتتحول المنطقة إلى إحدى ساحات التنافس بين القوى الدولية الرئيسية في النظام الدولي، وهو الأمر الذي كشفته زيارات رؤساء تلك الدول للمنطقة خلال النصف الثاني من العام الجاري.
فقد زار الرئيس الأمريكي جو بايدن الشرق الأوسط خلال الفترة من ١٣ إلى ١٦ يوليو ٢٠٢٢، بعد ثمانية عشر شهراً من أدائه اليمين الدستورية في 20 يناير ٢٠٢١، والتي أعقبتها زيارة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في ١٩ من الشهر ذاته، لإيران، وكذلك زيارة الرئيس الصيني شي جين بينج للسعودية خلال الفترة من ٧ إلى ١٠ ديسمبر ٢٠٢٢، والتي تضمنت عقد ثلاث قمم صينية مع السعودية، ودول مجلس التعاون الخليجي، والدول العربية.
تحركات محتملة
سينعكس تزايد اهتمام القوى الدولية بمنطقة الشرق الأوسط خلال عام ٢٠٢٢، واستمرار تداعيات الحرب الروسية-الأوكرانية على اقتصاداتها الوطنية والاقتصاد العالمي، والأزمات الداخلية التي قد تشهدها خلال العام المقبل، على طبيعة أدوارها بالمنطقة خلال عام ٢٠٢٣. وتتمثل أبرز الملامح المتوقعة في هذا السياق فيما يلي:
1- تراجع الانخراط الأمريكي في الملفات الإقليمية: تدفع نتائج انتخابات التجديد النصفي للكونجرس التي أجريت في 8 نوفمبر الفائت، وانقسام الأغلبية في الكونجرس بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري، حيث يُسيطر الأول على مجلس الشيوخ، بينما يتمتع الثاني بالأغلبية في مجلس النواب، والضغوط التي سيمارسها الجمهوريون على الإدارة الأمريكية، بهدف عرقلة أجندتها التشريعية، إلى مزيد من التركيز على قضايا الداخل الأمريكي، ولا سيما مع قرب الاستعداد للانتخابات الرئاسية التي ستجري في نوفمبر ٢٠٢٤.
وقد كشفت استراتيجية الأمن القومي للإدارة الأمريكية التي صدرت في ١٢ أكتوبر ٢٠٢٢، وما تبعها من وثائق أمريكية، وكذلك قانون تفويض الدفاع الوطني للسنة المالية ٢٠٢٣، الذي وقعه الرئيس بايدن في ٢٣ ديسمبر الجاري، عن اهتمام أمريكي متواضع بمنطقة الشرق الأوسط، والذي يؤسس على تعهدات أمريكية تقليدية تتضمن دعم الحلفاء في المنطقة؛ لتعزيز قدراتهم على مواجهة التنظيمات الإرهابية، ولردع ومواجهة الأنشطة الإيرانية التي تزعزع الاستقرار في الشرق الأوسط، وعدم السماح لقوى إقليمية أو أجنبية بتهديد الملاحة في الممرات المائية بالمنطقة، ولا سيما مضيقى هرمز وباب المندب، مع التأكيد على عدم التساهل مع تهديدات إيران ضد المواطنين والجنود الأمريكيين.
ومع ضغوط المشرعين الجمهوريين، وبعض الديمقراطيين، المعارضين لنهج إدارة الرئيس بايدن، لإعادة إحياء الاتفاق النووي مع إيران، يُتوقع أن تتراجع الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية عن جهودها الدبلوماسية في هذا الملف، ولا سيما مع الانخراط الإيراني في الحرب الروسية-الأوكرانية، بتقديم الدعم العسكري لروسيا من خلال تزويدها بطائرات من دون طيار، وتعنت النظام الإيراني – من وجهة النظر الغربية – في العودة إلى خطة العمل الشاملة المشتركة.
2- تزايد الاهتمام الأمريكي بمواجهة التنظيمات الإرهابية: ستستمر الولايات المتحدة الأمريكية خلال عام ٢٠٢٣ في استراتيجيتها لمواجهة التنظيمات الإرهابية في الشرق الأوسط، لا سيما تنظيمي “القاعدة” و”داعش” وحركة “شباب المجاهدين” الصومالية، والتي تقوم على ثلاث مرتكزات رئيسية: أولها، عدم انخراط القوات الأمريكية في مواجهة برية ضد التنظيمات الإرهابية بالمنطقة. وثانيها، تقديم الدعم الفني والاستخباراتي والتدريب للقوات العسكرية والأمنية بالدول التي تنشط التنظيمات الإرهابية على أراضيها؛ لتكون قادرة على مواجهتها، مع تقديم المساعدات العسكرية إليها. وثالثها، الاستهداف من الجو لقيادات التنظيمات الإرهابية، مع الحد من تعرض المدنيين للأذى، وكذلك شن بعض الضربات العسكرية الخاطفة والمركزة ضد مناطق تمركز التنظيمات الإرهابية.
3- تصاعد التركيز الصيني على التعاون الاقتصادي: كشفت زيارة الرئيس الصيني الأخيرة للمنطقة، والقمم التي عقدت خلالها، والاتفاقيات التي وقعت، أن هناك تركيزاً صينياً على توطيد العلاقات الاقتصادية مع الدول العربية، في ظل أهمية واردات الطاقة العربية إلى الصين؛ لاستمرارية التقدم الاقتصادي الصيني، وكون بكين الشريك التجاري الأول للدول العربية، فضلاً عن جاذبية الأسواق العربية للاستثمارات الصينية، وأخيراً الموقع الاستراتيجي للمنطقة في مبادرة الحزام والطريق.
وبجانب ذلك، ستكون بكين أكثر تركيزاً على شراكات في مجالات اقتصادية واعدة مثل الطاقة المتجددة، وتكنولوجيا الجيل الخامس، والفضاء، مع مزيد من التركيز على تعزيز قوتها الناعمة في المنطقة، والتعاون الأمني والعسكري مع عدد من الدول العربية.
ولكن التحديات الداخلية الصينية مع إلغاء سياسة “صفر كوفيد”، والتوقعات الدولية بحدوث تباطؤ في الاقتصاد الصيني، واحتمالات تصاعد التوتر الأمريكي-الصيني، في ضوء السياسات التجارية الأمريكية المتشددة تجاه بكين، والدعم العسكري الأمريكي المتزايد لتايوان، والتوقعات بمزيد من التوتر بين الطرفين في منطقة الإندو-باسيفيك، كلها عوامل سيكون لها – بلا شك – تأثيرات على الدور الصيني في منطقة الشرق الأوسط.
4- مواصلة الجهود الأوروبية في تسوية الأزمات: وهو ما بدا جلياً في مشاركة الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون في قمة “بغداد 2” التي عقدت في العاصمة الأردنية عمّان، في 20 ديسمبر الجاري. وإذا كان هدف هذه المشاركة يكتسب طابعاً سياسياً يتعلق بدعم أمن واستقرار العراق، فإن تلك المساعي الأوروبية بشكل عام للانخراط في أزمات المنطقة، تهدف، في قسم منها، إلى تأمين احتياجات الدول الأوروبية من الطاقة، في ظل التداعيات التي فرضتها الحرب الروسية-الأوكرانية، وتوقف إمدادات الغاز الروسي لتلك الدول، على نحو دفعها إلى البحث عن بدائل له، وقد كانت منطقة الشرق الأوسط هي الخيار الأول والرئيسي لها لتعويض النقص في صادرات الطاقة الروسية لها.
فقد شهد العام الجاري الكثير من زيارات قادة ومسئولي كبرى الدول الأوروبية للمنطقة، وكان ملف الطاقة على جداول أعمال تلك الزيارات. ولذلك يتوقع أن يستمر الاهتمام الأوروبي بالشراكات مع الدول العربية خلال العام القادم في مجال الطاقة لتأمين احتياجات تلك الدول من الطاقة، وتشجيع الدول المنتجة على زيادة الإنتاج، مع البحث عن شراكات متعددة في مجالات الطاقة المتجددة أيضاً.
5- استمرار المحاولات الروسية لتعزيز النفوذ: في الوقت الذي حاولت فيه الولايات المتحدة الأمريكية قيادة المجتمع الدولي لعزل روسيا دولياً في أعقاب عملياتها العسكرية في أوكرانيا، زاد النشاط الروسي في منطقة الشرق الأوسط. فقد عملت موسكو على تعزيز علاقاتها مع الدول الحليفة للولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة، والتي رفضت الانصياع للمطالب الأمريكية بمعاقبة موسكو، حيث اختارت غالبية دول الشرق الأوسط الحياد في الأزمة، مع انخراط بعضها في التوسط سواء لحل الأزمة أو في صفقات تبادل الأسرى بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا، وربما تبقى إيران هى الدولة الوحيدة التي اختارت دعم موسكو عسكرياً خلال الحرب.
ولذلك، فإنه مع تعدد سيناريوهات الحرب الروسية-الأوكرانية بين التسوية واستمرار العمليات العسكرية، فإن روسيا ستزيد من دورها في المنطقة، والذي لن يقتصر على تعزيز التواجد العسكري في سوريا، ولكن سيمتد إلى توسيع نطاق التعاون العسكري مع إيران والذي تصفه صحيفة “واشنطن بوست” بأنه “شراكة دفاعية واسعة النطاق”، إلى جانب محاولة زيادة مبيعات الأسلحة الروسية للدول التي تفرض الولايات المتحدة الأمريكية قيوداً على مبيعات الأسلحة إليها.
6- تكريس أولوية معالجة الأزمات الإنسانية: مع توقع عدم استثمار القوى الدولية المزيد من الموارد والاهتمام بتسوية الصراعات والأزمات المحتدمة في المنطقة، فإنها ستواصل اهتمامها بالأزمات الإنسانية في المنطقة، ولا سيما في ما يسمى بـ”الدول الفاشلة” التي تفقد السيطرة على أراضيها لتكون ملاذاً آمناً للتنظيمات الإرهابية، أو مصدراً للهجرة غير الشرعية.
ولذلك يُرجح استمرار الدعم الغربي للدول العربية لمواجهة أزمات تغير المناخ، في ضوء التعهدات الأمريكية والأوروبية خلال مؤتمر المناخ (COP 27)، وكذلك مساعدة الدول المتأثرة من الحرب الروسية-الأوكرانية، والتي تأثر أمنها الغذائي؛ خوفاً من تدهور الأوضاع الاقتصادية بها، على نحو سيكون له تداعيات على استقرارها السياسي، مع استمرار الدعم لهذه الدول في مواجهة الأزمات الصحية الطارئة.
مسارات متباينة
إن تحول منطقة الشرق الأوسط لساحة جديدة للتنافس بين القوى الدولية، لا سيما بين الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها من الدول الأوروبية من جانب، والصين روسيا من جانب آخر، قد يُمثل فرصة للدول العربية، حيث يوفر لها هامشاً من المناورة السياسية، ونوعاً من التوازن في العلاقات العربية-الأمريكية بما يُساعد في تقليص تداعيات أية تحولات محتملة في السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط خلال السنوات القادمة، فضلاً عن ممارسة ضغوط على الولايات المتحدة الأمريكية لإيلاء اهتمام أكبر لشواغلها الأمنية والتعبير عن عدم الرضاء عن السياسات الأمريكية في المنطقة.
ولكنها أيضاً في الوقت ذاته قد تعد تحدياً للدول العربية، حيث إنها تفرض عليها الموازنة في علاقاتها مع القوى المتنافسة، وتجنب اختيار العلاقات مع أىٍ من تلك القوى المتنافسة في المنطقة، مقابل تقليص العلاقات مع الأخرى، لأن ذلك ربما يكون مُكلِّفاً.