بذلت الدول الأوروبية منذ بدء الحرب الروسية الأوكرانية في فبراير الماضي جهوداً حثيثة لالتزام أنقرة بالسياسات الغربية ضد موسكو، والحفاظ على مستوى العلاقات مع تركيا من خلال فتور المواقف الأوروبية تجاه الغارات الجوية التركية على مناطق الشمال السوري والعراقي، رغم أن التوتر كان سمة رئيسية لتلك العلاقات، نتيجة الانتقادات المستمرة التي وجهها الاتحاد الأوروبي للممارسات السياسية في الداخل التركي، وتصاعد الخلافات بين الطرفين بسبب قضية اللاجئين.
وبرغم مساعي أوروبا للحفاظ على حالة التهدئة مع أنقرة فإن ذلك لم ينجح في معالجة المخاوف الأوروبية من السلوك التركي الجديد، ووصل الاستياء الأوروبي للذروة من أنقرة بسبب تنامي مساحات الشراكة وتطور العلاقات الاقتصادية مع موسكو، بالإضافة إلى إثارة الرئيس التركي في 12 ديسمبر الجاري مخاوف اليونان بعد تلميحه بإطلاق صاروخ “تايفون” الذي يُصنف ضمن الصواريخ الباليستية قصيرة المدى تجاه أراضيها.
لم تعد الملفات الخلافية التقليدية مثل: قضايا اللاجئين، والتوجهات الأيديولوجية للحكومة التركية، والممارسات السلطوية للحزب الحاكم، هي العقد الحاكمة لمسارات العلاقة بين أنقرة والاتحاد الأوروبي، فثمة خلافات مستجدة أسهمت في توتر العلاقة بين الطرفين، وهو ما يمكن بيانه على النحو التالي:
دعم الخصوم
1- التقارب مع خصوم أوروبا وخاصة موسكو وطهران: ثمة مخاوف متصاعدة من التقارب التركي مع خصوم الاتحاد الأوروبي، وبخاصة موسكو وطهران. فعلى صعيد العلاقات مع موسكو، تزايدت أهمية الملفات التي تمثل محاور مشتركة بين الطرفين، على غرار بعض التطورات الإقليمية، أهمها رفض الانخراط التركي في العقوبات المفروضة على موسكو. ومن جهتها دعمت روسيا الموقف التركي تجاه أزمة جزيرة قبرص، حيث أعلنت الأولى في سبتمبر الماضي عن تسييرها رحلات طيران مباشرة مع قبرص الشمالية، الجمهورية غير المعترف بها سوى من جانب تركيا.
بالتوازي مع ما سبق، تتجه تركيا نحو تعزيز العلاقات مع طهران خلال المرحلة الراهنة، وغض الطرف عن القضايا الخلافية معها، خاصة أن إيران تتبنى اتجاهاً لتهدئة الأجواء بين تركيا والنظام السوري من جهة، ومن جهة أخرى فإن إيران باتت تتوافق مع تركيا في معاداتها ضد حزب العمال الكردستاني، وهو ما تجلى فى التنسيق المشترك بين البلدين عشية القضف الإيراني في مطلع نوفمبر 2022 على معاقل حزب العمال الكردستاني الإيراني شمال العراق. كما أن الإدانة الإيرانية للهجوم الذي وقع في مدينة إسطنبول في 13 نوفمبر الماضي، والمتهم فيه حزب العمال الكردستاني، دفع أنقرة إلى مزيد من التفاهم مع طهران، خاصة أن تركيا بدأت من جديد حملتها العسكرية على مناطق الشمال العراقي في 20 نوفمبر الماضي.
في هذا السياق، يمكن فهم تأكيد الاتحاد الأوروبي في 12 ديسمبر الجاري على أنه يشعر بقلق إزاء حفاظ تركيا على شراكة وثيقة مع خصوم الاتحاد. ويشار إلى أن جوزيب بوريل منسق السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي، قال في رسالة للبرلمان الأوروبي: “إن تعميق العلاقات الاقتصادية بين تركيا وخصوم الاتحاد، وبخاصة روسيا يمثل مصدر قلق كبير”.
عقوبات موسكو
2- دعم روسيا في مواجهة العقوبات الغربية: تبدي تركيا اهتماماً خاصاً برفع مستوى العلاقات الثنائية مع روسيا، لا سيما على المستوى الاقتصادي، وهو ما بدا جلياً في الزيارة التي قام بها الرئيس التركي لروسيا في مايو 2022، ولقائه نظيره الروسي في مدينة سوتشي المطلة على البحر الأسود. وفي رؤية تركيا، فإن ثمة اعتبارات عديدة يمكن أن تدفع في اتجاه تحقيق هذا الهدف، الذي يمكن أن يؤدي إلى زيادة حجم التبادل التجاري مع موسكو، تتصل بالتطورات المرتبطة بالحرب الأوكرانية، خاصة أن ثمة قناعة تركية بأن ثمة تعويلاً روسياً على أنقرة في تأمين حاجتها الاقتصادية.
في هذا السياق، يمكن فهم تصاعد الشكوك الأوروبية تجاه الدور التركي بشأن مساعدة موسكو في الإفلات من العقوبات المفروضة عليها بسببب الأزمة الأوكرانية، وكشف عن ذلك تحذير جوزيف بوريل منسق السياسة الخارجية الأوروبية، في 12 ديسمبر الجاري، من مساعدة محتملة لتركيا لحكومة موسكو في الإفلات من العقوبات المفروضة عليها بسبب الحرب الأوكرانية. وتعززت الشكوك الأوروبية بعد استقبال الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، في 10 ديسمبر الجاري، المدير التنفيذي لشركة “غازبروم” الروسية “أليكسي ميللر”.
ولم تقتصر الشكوك على ما سبق، فثمة قلق متنامٍ بعد تأكيد الرئيس التركي في 11 ديسمبر الجاري على أنه اتفق مع نظيره الروسي على تفعيل مبادرة تأسيس قاعدة في تركيا لصادرات الغاز الطبيعي الروسي، وهي الفكرة التي طرحها الرئيس بوتين في أكتوبر الماضي كوسيلة لتغيير مسار الإمدادات من خط أنابيب نورد ستريم الروسي لأوروبا. كما تشير تقديرات غربية إلى وجود عشرات الآلاف من رجال الأعمال والشركات الروسية التي نقلت أنشطتها إلى تركيا التي وفرت إجراءات تسهيل عمليات تمرير وتهريب الأموال الروسية عبر التجارة العالمية، بواسطة شركات تركية تلعب دور الوسيط، حيث تستفيد روسيا ومعها تركيا من كل هذه التسهيلات.
استعداء أثينا
3- عسكرة الأزمة اليونانية في منطقة بحر إيجه: لا ينفصل التوتر الجديد بين أنقرة والاتحاد الأوروبي عن مخاوف الأخير من اتجاه أنقرة إلى عسكرة الأزمة مع اليونان في منطقة بحر إيجه. وعادت أجواء التوتر بين البلدين في الوقت الحالي، وكشف عنها التصريحات والتصريحات المضادة. ورغم أن الأزمة حول الجزر المتعلقة ببحر إيجه، هي واحدة من ملفات معقدة بين أنقرة وأثينا، أهمها التنقيب عن غاز شرق المتوسط، وتقسيم جزيرة قبرص، والحدود البحرية والجوية؛ فإن التصريحات التي أدلى بها الرئيس التركي في 11 ديسمبر الجاري، وإعلانه أن بلاده يمكنها استهداف اليونان من خلال الصاروخ التركي الجديد “تايفون”، والذي أكد على أنه يثير رعب اليونان، تدق ناقوس الخطر لدى الاتحاد الأوروبي، وتُنذر بدخول العلاقات التركية الأوروبية مرحلة جديدة، خاصة مع تصاعد فرص عسكرة الأزمة بين أنقرة وأثينا.
المعضلة السورية
4- الانفتاح على نظام الأسد في سوريا: ترتبط الخلافات الجديدة بين أنقرة والاتحاد الأوروبي في جانب منها بإصرار تركيا على عسكرة الأزمة شمال سوريا، وإعادة استهداف قوات سوريا الديمقراطية “قسد” منذ 20 نوفمبر الماضي، وكذلك توجه أنقرة بوساطة روسية لتعزيز انفتاحها على النظام السوري. ويشار إلى أن وزير الخارجية التركي قد أعلن في 12 ديسمبر الجاري في تصريحات له أمام البرلمان التركي عن جاهزية بلاده للعمل المشترك مع النظام السوري بشأن “مكافحة الإرهاب” والعملية السياسية وعودة اللاجئين السوريين.
وفي الوقت الذي تعارض فيه القوى الأوروبية المطالب التركية بتأسيس منطقة آمنة بعمق 35 كم في الشمال السوري، فإنها لا تزال تشكك في شرعية النظام السوري، وتجلى ذلك في الرفض الأوروبي للاعتراف بنتائج الانتخابات الرئاسية التي شهدتها سوريا في مايو 2021. ولذا فإن الاتحاد الأوروبي يعتقد أن الانفتاح التركي على دمشق يمنح نظام الأسد الفرصة لاستعادة عافيته، وهو ما يعني استمرار دوران دمشق في الفلك الروسي، ومناهضة المصالح الأوروبية في سوريا.
توسيع الفجوة
وعلى ضوء ذلك، يمكن القول إن التقارب الملحوظ في العلاقات بين تركيا وخصوم أوروبا، وبخاصة موسكو وطهران، إضافة إلى التهديدات التركية لليونان، وعسكرة الأزمة شمال سوريا؛ سوف يساهم في توسيع فجوة الخلافات بين تركيا والاتحاد الأوروبي، وكذلك زيادة مساحات عدم الثقة لدى الأوروبيين في السياسات التركية خلال المرحلة القادمة، خاصة أن تطورات السلوك التركي سواء حيال الأزمة الأوكرانية، أو على الساحة الإقليمية تعزز هذا الاحتمال.