ظن أن كأس العالم في قطر طرح علينا نحن المشتغلين بالعلوم السياسية قضية العلاقة بين الذات والآخر كما لم تُطرَح هذه القضية في أي مناسبة رياضية سابقة. وهنا سأقفز على قضية الصراع بين الثقافات، وبين قيمهم وقيمنا التي انفجرت في وجوه محبّي كرة القدم مع بدء العدّ التنازلي للمونديال ثم مع أيامه الأولى، فهذا ليس هو موضوع المقال. لكن الموضوع هو حول سؤال الهوية العربية الذي فرض نفسه مع النجاحات المتتالية لفريق المغرب والتفاف الشعوب العربية من حوله، فلقد اعتبر البعض أن سعادة العرب بأداء فريق المغرب هو محاولة لسرقة هذا الأداء المغربي الرفيع ونسبته إلى العرب جميعًا. ولا أظن أن الشعوب العربية التي أقامت الأفراح والليالي الملاح في بلادها إكرامًا لفريق المغرب خطر ببالها للحظة أن تسلب المغرب حقه، فالإنجاز مغربي لا شك في ذلك، والعالم كله شاهد على أن اللاعبين مغاربة حتى لو ولدوا خارج أرضه، والمدرّب الذي تسلّم عمله قبل شهور قليلة من المونديال مغربي، والأهداف التي هزّت شباك كندا وبلچيكا وأسبانيا والبرتغال هي طبعًا أهداف مغربية، لكن الفرحة ليست مغربية حصرًا بل تتجاوز حدود المغرب وتترامى إلى ما وراءه بكثير في الاتجاهات الأربعة. وبالنسبة لنا كعرب يوجد شيء يمّيز فرحتنا بالمغرب عن مجرد تشجيع اللعبة الحلوة، ولو أراد المنزعجون بشدة من كل حديث عن العروبة أن يصفوا هذه الفرحة العربية بأنها فرحة بدولة يُعّد المكوّن العربي مكونًا أساسيًا من هويتها فليكن لهم ما أرادوا، بلا سياسة ولا عنصرية ولا شعبوية ولا يحزنون. لكن لا أقل من الفرح للفرح الثقافي العربي مع المغرب وأظن أن هذا الحد الأدنى مقبول ولا يثير حفيظة أحد. هاتوا لي أي بقعة من العالم احتفت شعوبها بهذا الإنجاز المغربي الكبير بنفس الهيستريا والتلقائية والصدق كما حدث في منطقتنا العربية، هاتوا لي هذا العدد من الأغاني والأشعار والأعلام والنكات انتشر أكثر مما انتشر في بغداد وبيروت والدوحة وجدّة والكويت وعمّان والقدس والقاهرة. عن نفسي لم يسبق لي أن رأيت أعلامًا مغربية تباع في شوارع بلدي من قبل، نعم رأيت أعلامًا فلسطينية كثيرة وأعلامًا سعودية كثيرة وربما رأيت أعلامًا سودانية أو سورية أيضًا لكن أعلامًا مغربية لم يحدث. في مصر كان الانطباع السائد أن المغرب بعيد ويتكلم الفرنسية، ثم فوجئ الذين لا يعرفون المغرب بحارس المرمى ياسين بونو يرفض الحديث للإعلام بغير اللغة العربية، وفوجئوا بأن أم اللاعب سفيان بوفال تشبه في ملامحها أمهات كثيرات يمشين بيننا وأن نظرات عينيها لابنها هي نفس نظرات عيوننا احتفالًا بأولادنا، وهكذا طاحت -كما يقول المغاربة- المسافات البعيدة، والفضل كله لفيسبوك وتويتر اللذين جعلا اللقطة العبقرية لسفيان وأمه تدخل كل بيت عربي.
• • •
تلك الوصلة الكهربائية التي تصل بيننا نحن شعوب هذه المنطقة من العالم جاهزة دائمًا لترسل ذبذباتها إلى عروقنا فننتفض، وهي فقط في انتظار مَن يضغط على الزر ليشغّلها، فيروز وأُنس جابر ونصير شمّة ومحمد صلاح وجمال سليمان ونوال المتوكّل وحسين الچاسمي وأحلام مستغانمي يشغلونها، والكبسة والكسكسي والكشري والتمر والطعمية والشَربات والأرجيلة يشغلونها، والنول والناي والبخور والزغرودة والحنّة والنكتة والموّال يشغلونها، أما في السياسة فطبعًا فلسطين تشّغلها. أن تحب فلسطين وترفض التطبيع مع إسرائيل لا يعني بالضرورة أنك تنتمي لتيار الإسلام السياسي أو أنك إسلاموي كما يحلو للبعض التهكّم بالقول، وهو لا يشترط أن تؤيد خط إيران التي تدعم فلسطين وتستفيد سياسيًا من هذا الدعم للحد الأقصى، كما أنه لا يعني أنك تؤيد حماس والجهاد ضد فتح، يكفي أن تكون في صفّ الحق وتصف الاحتلال بأنه احتلال، وتعتبر أن قتل محمد الدرّة وشيرين أبو عاقلة هو قتل متعمّد مع سبق الإصرار والترصد. في أحد الفيديوهات المتداولة في كأس العالم رأينا شابًا وشابة يرفعان لافتتين يدعوان بهما المارة إلى الاقتراب منهما واحتضانهما إن كانوا يؤمنون بحق فلسطين في الحرية، فإذا بالبيض والملونين من غير العرب يفتحون أذرعهم على آخرها ويحتضنوهما بترحاب شديد، يحدث هذا ممن لا يشبهون ملامح الشابين ولا يتكلمون لغتهما ولا يعيشون جوارهما فما بالك بالعرب الذين حاربوا في فلسطين وحجّوا إلى فلسطين وتزاوجوا مع الفلسطينيين؟. إنكار وجود العروبة لا يفيد، فعيون الغربال واسعة جدًا بما يجعل من الصعب تجاهلها أو إنكار وجودها. لكن المشككين لا يملّون، وهم بعد أن فرغوا من إنكار العروبة أولًا، وربطها بالإسلام السياسي ثانيًا، وجدناهم يشككون في عروبة فريق المغرب ثالثًا، اصطادوا بعض التصريحات العنصرية من هنا ومن هناك للقول إن اللاعبين الأمازيغ هم الذين جلبوا الفوز للفريق المغربي، بينما أن الذين يعرفون المغرب جيدًا يدركون تمامًا أن الأمازيغ يمثلون جزءًا أصيلًا من الشعب المغربي، وأن الأمازيغ من قبل أن يولد المشكّكون في انتمائهم الوطني بسنين طويلة رفضوا الاستجابة لمحاولات الاستعمار الفرنسي التفريق بينهم وبين العرب، لكن ماذا نفعل مع السياسة وأهوائها؟.
• • •
لفتت مباريات كأس العالم النظر إلى أن هناك في العمق ما يجمع بين شعوب هذه المنطقة من العالم، فلم تكن أرض قطر هي فقط التي لعبت مع فريق المغرب، لكن أراضي ٢٠ دولة عربية أخرى كانت تلعب كل المباريات والأشواط والوقت الأصلي والاحتياطي، والأرض حين تلعب مع صاحبها تحمّسه. هل أخذت هذه الحماسة أصحابها بعيييدًا جدًا عن قصد أو دون قصد؟ نعم حدث هذا ووجدنا البعض يقارنون بين الأداء العظيم للفريق المغربي والأداء المُحبط لمؤسسات العمل العربي المشترك، ما علاقة هذا بذاك؟ سمك لبن تمر هندي كما يقولون. بل وجدنا البعض منّا يذهب إلى أن ما حدث في الدوحة ينبئ ببدايات تشكيل نظام عالمي كروي جديد، وهكذا دخل كله في بعضه.. القمة العربية- الصينية مع القمة الأفريقية -الأمريكية مع خروج فرق رياضية كبيرة من كأس العالم، وتم تحميل المستديرة الساحرة أكثر مما تحتمل. مولعون نحن جدًا بالمبالغة وشطّار نحن في الفخر منذ الأزل. لكنها لحظات استثنائية بكل المقاييس، وعند الاستثناء تباح أشياء كثيرة.
• • •
لستُ متأكدة من أن هذا الذي كتبته يدخل في دائرة الانطباعات الشخصية، لكني واثقة أن جزءًا مني فرح جدًا لأن هناك بلدًا أحبُه حقق أحلام البسطاء الذين تخلبهم كرة القدم. أحب هذا البلد بأبعاده كلها: الأمازيغية والأفريقية والمتوسطية والإسلامية واليهودية والمسيحية.. وأتمنى من الذين يحصون كل أبعاد الهوية المغربية ألا ينسوا البعد العربي في الزحمة .
نقلا عن الشروق