تفصيلات المستقبل في علم الغيب ولكن المؤشرات والخطوات والسياسات والإجراءات والأحداث والحوادث الحالية تمكننا من استشراف ما يمكن أن يكون عليه المستقبل، أو فلنقل جانباً منه.تجارب الأمس القريب علمتنا أن التوقعات قابلة للانقلاب رأساً على عقب تحت وطأة وباء غير متوقع أو حرب لم تكن في الحسبان ولكنها تظل استثناءات لا تثنينا عن جهود تخيل ما يمكن أن يكون عليه العالم غداً.
غداً، لن تكون توازنات القوى العالمية كما كانت عليه من قبل. المؤشرات تؤكد ذلك. وعلى الرغم من متاعب ومشكلات وهموم المواطن العربي العادي الواقع بين شقي رحا أزمة اقتصادية عالمية تنهش الجميع، ومشكلات اقتصادية محلية، إلا أن هذا التحول الجاري تشكيله وصناعته سيؤثر فيه أقرب مما يتخيل.
تخيل بعضهم أن العرب كتِبت عليهم صفة «التناقض». دول غنية وأخرى فقيرة. دول واقعة في حروب وأخرى تحاول إطفاءها. دول تغازل الغرب وأخرى تعاديه. وقائمة التناقضات طويلة ولكن ما يجري على الساحة العربية اليوم غير مسبوق.
سبق أن أقامت دول في منطقتنا اتحادات أو شراكات أو علاقات تمنت الشعوب أن تكون تكاملية بين بعضها بعضاً، جانب منها أتى ثماره، والجانب الآخر لم يصنع فارقاً حقيقياً في حياة الشعوب.
الشعوب العربية اليوم تتابع بنفسها تحولات كبرى مدروسة ومنسقة. سلسلة القمم التي تستضيفها المملكة العربية السعودية ليست مجرد اجتماعات أو مقابلات. إنها سلسلة من الخطوات الاستباقية والاستشرافية التي تتخذها السعودية في عالم مقبل على تغيير كبير في توازنات القوة. وهذا الإقبال ليس مجاراة بقدر ما هو مشاركة فعلية في التغيير وإحداثه.
إحداث التغيير لم يبدأ مع القمم الصينية الأخيرة في السعودية. بدأ قبلها العالم يتابع ما يجري في المنطقة العربية وهو مشدوه. جرى العرف أن تكون العلاقات العربية إما عربية أمريكية، أو عربية سوفييتية ثم روسية. بمعنى آخر، النمط التقليدي إما ميل غربي وإما شرقي ولكن الأنماط لا تدوم والسياسة والتوازنات والمصالح لا تلتزم عادة مبدأ الاستدامة الجبرية. تحدث الاستدامة اختيارياً حين تتلاقى المصالح والأفكار مع هامش لا يمكن التقليل من شأنه أو تجاهله من قوة ناعمة ولكن هادرة قوامها وحدة التاريخ واللغة والثقافة.
ثقافة العالم ثنائي القطب وأحياناً أحادي القطب لم تعد واردة. «مستقبل القوة» عنوان شغل وما زال فكر وبال الملايين وهو عنوان تنشر تحته كتب ومقالات ودراسات على مدار عقود. ويختلف محتوى المكتوب والمنشور والمتوقع باختلاف العصر ومؤشرات القوة فيه وكذلك بحسب هوى أو انتماء الكاتب والمحلل والمؤلف، ولكن يبقى العنوان طارحاً نفسه سؤالاً ومثاراً للبحث والتفكير والتحليل.
تحليل المشهد الحالي يقول إن تعريف الأقطاب يعاد صوغه، وإن توازنات القوى يعاد رسمها، وإن الأدوار الكلاسيكية تعاد هيكلتها. دور الولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الأوسط سيظل حاضراً وبقوة، ولكن للقوة درجات وأشكال وأيضاً مواسم ومناسبات. وروسيا – سواء خرجت منتصرة أو نصف منتصرة أو منهزمة من حربها في أوكرانيا – ستظل حاضرة في المنطقة. والصين يعاد طرح دورها في المنطقة ومعها دور العرب، ولا سيما دول الخليج ومصر. غاية القول إن المنطقة العربية جارية إعادة تشكيل تفصيلاتها وعلاقاتها وتوازناتها بشكل غير مسبوق من ناحية الحنكة الدبلوماسية والفطنة السياسية والواقعية الاقتصادية والاجتماعية، وقبل كل ذلك بقدر واضح وصريح من الثقة بالقدرات والنفس والمكانة والقدرة على إحداث التغيير، لا مجاراته فقط.
الجميع يعلم أن إحدى أهم نقاط البداية هي الشرق الأوسط، سواء كان شرق أوسط ضعيفاً أو قوياً، متماسكاً أو مهلهلاً، متوائماً أو متنافراً. والجميع يعلم أن النظام الجديد الجاري سنه إن لم يكن يبدأ من منطقتنا فهو يعبر منها أو ينتهي فيها أو كل ما سبق. أمريكا قلقة من التقارب العربي الصيني، وهذا طبيعي. والصين سعيدة ومستفيدة، وهذا متوقع. وروسيا تؤجل إشهار خطوتها الكبيرة المقبلة في علاقاتها بالمنطقة لحين حسم الموقف في أوكرانيا. وأوروبا لديها ما يكفيها الآن ولحين إشعار آخر من لملمة جراح وآلام ومهام آثار الحرب في أوكرانيا واقتصاد ما بعد الوباء والتعامل مع الجماعات اليمينية الآخذة في اكتساب المزيد من الأرض والحضور والشعبية.
الشعوب العربية موعودة بتغيرات كبرى في المنطقة وربما يكون التغيير جزءاً من التغيير العالمي الكبير، ولكنه في القلب منه. أمن المنطقة واقتصادها وتنميتها وخروج أو إخراج مناطقها الغارقة في صراعات طالت ومكانتها الفعلية لا الكلامية في النظام الجديد أمور جارٍ صوغها والمؤشرات تقول إن القادم أفضل وحتى إن كان الحاضر صعباً. جارٍ تحميل منطقة عربية بمواصفات جديدة.
نقلا عن البيان