بعد أن برزت مؤشرات عديدة تكشف عن أن العلاقات بين الجزائر وفرنسا تتجه إلى مزيد من التحسن بعد مرحلة من التوتر، عكست الخطوة الأخيرة التي اتخذتها الجزائر، في 17 نوفمبر الجاري، بتأجيل صفقة الغاز التي كانت فرنسا تطمح في إبرامها قبل نهاية العام، استمرار تأثير الخلافات العالقة بين الطرفين، التي تحولت إلى متغير رئيسي له دور في تحديد اتجاهات العلاقات الثنائية.
ومن دون شك، فإن القرار الجزائري بتأجيل صفقة الغاز سوف يفرض تداعيات مباشرة على الاقتصاد الفرنسي، خاصة مع حلول فصل الشتاء، حيث كانت باريس تسعى عبر تلك الصفقة إلى تعزيز قدرتها على توسيع هامش الخيارات المتاحة أمامها على الساحة الدولية، لا سيما مع استمرار تصاعد حدة الحرب الروسية-الأوكرانية. لذا، فإن تأجيل الصفقة يضفي نوعاً من الشكوك إزاء إمكانية إبرامها من الأساس.
تأثيرات مباشرة
مثّلت هذه الخطوة التي اتخذتها الجزائر انعكاساً مباشراً لاتساع نطاق التباينات في السياستين الجزائرية والفرنسية إزاء العديد من الملفات، سواء تلك التي تتصل مباشرة بالعلاقات الثنائية، أو تلك التي تتعلق بالملفات الإقليمية. ففي رؤية اتجاهات عديدة، لا يمكن فصل هذه الخطوة عن استمرار الخلاف الجزائري-الفرنسي حول ما يعرف بـ”قضية الذاكرة”، الخاصة بفترة الاستعمار، في ظل إصرار فرنسا على رفض الاعتذار عن الجرائم التي ارتكبت خلال تلك الفترة، واستياء الجزائر من التصريحات التي سبق أن أدلى بها الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، في 2 أكتوبر 2021، وشكك خلالها في “وجود أمة جزائرية” قبل الاستعمار الفرنسي، وهى التصريحات التي لا يبدو أن زيارة ماكرون للجزائر، في 25 أغسطس الماضي، نجحت في احتواءها أو على الأقل إضعاف تأثيرها.
فضلاً عن ذلك، تصاعدت حدة الأزمة التي فرضتها القرارات التي اتخذتها السلطات الفرنسية بالتشدد في إصدار تأشيرات لرعايا دول المغرب العربي. وقد تفاقمت تلك الأزمة بعد التصريحات التي أدلى بها الرئيس ماكرون، على هامش اجتماعات منظمة الدول الفرانكفونية بمدينة جربا التونسية في 20 نوفمبر الجاري، حيث دافع عن تلك القرارات، معتبراً أنها “بدأت تؤتي ثمارها”، مشيراً إلى أنه “من غير المقبول ألا يتم إرجاع الأجانب الموجودين في وضع غير نظامي داخل الأراضي الفرنسية والذين تم تحديدهم على أنهم خطرين ومزعجين للنظام العام”.
انعكاسات مختلفة
تعتمد فرنسا في الأساس في تأمين مصادر الطاقة على وارداتها من الخارج، لا سيما من دول مثل روسيا. وبالطبع، فإن التأثيرات التي فرضتها الحرب الروسية-الأوكرانية، لا سيما مع استمرار الدعم الغربي لأوكرانيا، فضلاً عن اتجاه الجزائر إلى تأجيل إبرام صفقة الغاز مع فرنسا، كل ذلك سوف ينتج تداعيات مباشرة على فرنسا.
إذ قد يؤدي النقص المحتمل في موارد الطاقة إلى تعطل بعض القطاعات الإنتاجية التي تعتمد على الاستهلاك الكثيف للغاز، وهو ما يمكن أن تكون ارتداداته مضاعفة في ظل استمرار تداعيات أزمة انتشار فيروس “كوفيد-19”. وسوف تواجه الحكومة الفرنسية ضغوطاً قوية في سبيل الحفاظ على مستوى أقل للارتفاع في أسعار الطاقة، مقارنة بالدول الأوروبية الأخرى.
ففي هذا السياق، قالت رئيسة الوزراء الفرنسية إليزابيث بورن، في 22 سبتمبر الماضي، أن باريس سوف تضع سقفاً لزيادة أسعار الغاز الطبيعي والكهرباء عند حدود 15% في مطلع العام المقبل ممددة بذلك تحكمها بالأسعار بعد الحرب الروسية-الأوكرانية، فيما توقع وزير المالية برونو لومير أن يبلغ صافي تكلفة سقوف أسعار الطاقة في ميزانية عام 2023 ما مجموعه 16 مليار يورو.
وربما يؤدي تراجع قدرة باريس على الحصول على احتياجاتها من الطاقة إلى ارتفاع معدل التضخم، وهو احتمال لا يمكن استبعاده في ظل استمرار ارتفاع أسعار الغذاء وتكاليف الشحن.
آليات التحرك
ربما تتجه فرنسا، بناءً على هذه الضغوط، إلى تبني خيارات محتملة في التعامل مع هذه الخطوة التي اتخذتها الجزائر، يتمثل أبرزها في:
1- ممارسة ضغوط على الجزائر: قد تحاول فرنسا ممارسة ضغوط أقوى على الجزائر من أجل دفعها إلى مراجعة موقفها من صفقة الغاز. وفي رؤية باريس، فإن هناك أوراق ضغط يمكن استخدامها في هذا السياق، منها استمرار الإجراءات المشددة فيما يتعلق بمنح التأشيرات لمواطني دول المغرب العربي، ولا سيما الجزائر، بالتوازي مع اتخاذ خطوات إجرائية لترحيل المخالفين للقواعد المتبعة داخل فرنسا، إلى جانب التوجه نحو تعزيز التحسن في العلاقات مع المغرب، وربما دعم الجهود التي تبذلها الأخيرة من أجل توسيع نطاق حضورها في أفريقيا، فضلاً عن دورها في ملف إمدادات الغاز من أفريقيا إلى أوروبا عبر خط الأنابيب النيجيري.
2- البحث عن مصادر أخرى: سوف تسعى فرنسا جاهدة لتأمين احتياجاتها من الطاقة وخفض الاعتماد على البديل الجزائري، وذلك من خلال تعزيز الجهود التي تبذلها المفوضية الأوروبية التي تبنت خطة لخفض الاعتماد على هذا البديل تحديداً، بالتوازي مع اتخاذ مزيد من الخطوات التي يمكن أن تساعد في تفعيل سياسة “الطاقة المتجددة”.
3- اللجوء إلى شراء الغاز المُسال: رغم أن هناك تقارير تشير إلى فرنسا نجحت في تأمين احتياجاتها من الغاز، على الأقل خلال المرحلة القادمة، إلا أنها ما زالت حريصة على محاولة إقناع الولايات المتحدة الأمريكية بييعها كميات من الغاز المسال، لكن بأسعار أقل، خاصة أن تكلفة هذا الغاز تبقى عالية مقارنة بالغاز الذي كانت تقوم روسيا بتوفيره إلى الدول الأوروبية.
ففي هذا السياق، دعا وزير الاقتصاد الفرنسي برونو لومير، في 13 أكتوبر الماضي، الولايات المتحدة الأمريكية إلى بيع الغاز الطبيعي المسال لفرنسا بسعر “أرخص”، مضيفاً
خلال كلمة ألقاها عن بُعد في اجتماع لوزراء مالية دول مجموعة السبع في واشنطن: “نتوقع المزيد من الإدارة الأمريكية”.
4- تشغيل محطات الطاقة الكهربائية بالفحم: ربما تتجه فرنسا إلى إعادة تشغيل بعض المحطات الكهربائية بالفحم. وبالفعل، لم تستبعد وزارة الانتقال الطاقي الفرنسية، في 27 يونيو الماضي، العودة مجدداً للاستعانة بخدمات محطة تعمل بالفحم شرقي البلاد كانت قد أغلقتها في 31 مارس الماضي، وذلك لإنتاج الكهرباء. وأوضحت الوزارة أن نسبة إنتاج الكهرباء بالفحم “لن تتخطى عتبة واحد في المئة من إجمالي الإنتاج”، موضحة أنه لن يتم “استخدام الفحم الروسي”.
توتر مستمر
في الختام، يمكن القول إن القرار الذي اتخذته الجزائر بتأجيل صفقة الغاز الجديدة مع باريس قد يؤدي إلى إعادة تأجيج التوتر في العلاقات الثنائية بين الطرفين، وإن كان ذلك لا يعني في الوقت نفسه أن الدولتين في وارد الوصول بمستوى هذا التوتر إلى مرحلة غير مسبوقة، حيث أن هناك مصالح متبادلة تفرض ضرورة وضع حدود لهذه الخلافات على الأقل في المديين القريب والمتوسط.