أعلنت المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي اللبنانية، أنها تمكنت من تنفيذ “عمليات نوعية استباقية دقيقة” خلال عام 2022، أسفرت عن رصد وتحديد وتوقيف 8 خلايا إرهابية في مختلف المناطق اللبنانية، ينتمي أعضاؤها إلى تنظيم “داعش” الإرهابي، وقالت المديرية إنها تمكنت من تنفيذ العمليات عبر جهاز شعبة المعلومات التابع لها، موضحة أنه “تبين بعد التحقيق مع الموقوفين، تخطيطهم للقيام بعمليات إرهابية تستهدف مراكز عسكرية وأمنية، وتجمعات دينية ومدنية مختلفة”، وضمت الخلايا –وفقاً للبيانات الرسمية اللبنانية– 30 شخصاً غالبيتهم من اللبنانيين، وتأتي هذه العمليات في إطار تحركات أمنية لبنانية موسعة بدأت منذ سنوات لاحتواء تهديد تنظيم داعش، الذي سعى إلى اختراق الجغرافيا اللبنانية، وجعلها ساحة جديدة للحضور والنشاط، استغلالاً للاضطرابات السياسية والأوضاع الاقتصادية المأزومة وما تبعها من حالة هشاشة أمنية.
لم يكن الحرص الداعشي على اختراق الجغرافيا اللبنانية وليد اللحظة، استغلالاً للظرف السياسي والاقتصادي الراهن في البلاد، بل بدأت مؤشرات هذا التوجه في الظهور مع عام 2013 عندما نشر التنظيم تسجيلاً صوتياً لأحد قياداته وهو يتوعد وزير الداخلية اللبناني الأسبق “مروان شربل” ويقول إن بلاده ستكون هدفاً لمسلحي التنظيم في الفترات المقبلة، وذلك عقب تصريحات للوزير اللبناني قال فيها إنه يريد الزج بعناصر التنظيم في السجن حتى يخرجوا صالحين.
وفي يناير 2014، تبنّى تنظيم داعش التفجير الإرهابي الذي حدث في الضاحية الجنوبية لبيروت. وفي السياق ذاته،استطاع تنظيم داعش في أغسطس 2014 اعتقال عددٍ من الجنود اللبنانيين، وأعلن أنه سيقوم بقتل جندي من الأسرى يومياً إذا لم يتم تحييد حزب الله عن مفاوضات تبادل الأسرى اللبنانيين لدى داعش، لكن اسم داعش غاب في السنوات اللاحقة عن الساحة اللبنانية، خصوصاً في مرحلة أفول التنظيم في الفترة بين 2017 و2019، ليعود التنظيم مرة أخرى بحلول سبتمبر 2020، وبالتحديد مع العملية الأمنية التي قام بها الجيش اللبناني في طرابلس ضد مجموعة متطرفة مرتبطة بالتنظيم الإرهابي (قيل إنها على علاقة بحادث إرهابي وقع قبل هذه العملية بأسابيع في قرية “كفتون” شمال لبنان،وذهب ضحيته ثلاثة عناصر من شرطة بلدية القرية). ومنذ ذلك الحين تُعلن الأجهزة الأمنية اللبنانية بين حين وآخر عن استهداف وإيقاف مجموعات داعشية بشكل منتظم في الأراضي اللبنانية. وفي 18 أكتوبر الماضي، أعلنت قيادة الجيش اللبناني أن المخابرات اللبنانية استطاعت توقيف أحد المواطنين، الذين قاتلوا إلى جانب تنظيم داعش في سوريا، وعاد إلى لبنان خلسة، ليقوم بعمليات تجنيد في الداخل اللبناني لصالح داعش، على أن يتم إرسال مجموعة من العناصر الجديدة إلى سوريا، فيما يتم تجهيز مجموعات أخرى لتنفيذ عمليات إرهابية في لبنان.
ويمكن فهم وتفسير الحرص الداعشي على اختراق الجغرافيا اللبنانية، في ضوء الاعتبارات التالية:
دولة مأزومة
1- الاستثمار في الأزمات العميقة اللبنانية: تقوم استراتيجية داعش بشكل عام وكذا تنظيمات التطرف العنيف على فكرة “توظيف الأوضاع في الدول المأزومة بما يُعزز الحضور وخلق مساحات نشاط جديدة”. وفي هذا السياق،تشهد الساحة السياسية اللبنانية في الآونة الأخيرة أزمة عميقة تتداخل فيها العوامل السياسية مع الاقتصادية والمجتمعية والأمنية، وهو سياق يُمثل بيئة خصبة بالنسبة للتنظيم للحضور في الساحة اللبنانية.
فعلى المستوى السياسي، يشهد لبنان حالة فراغ رئاسي عقب انتهاء فترة العماد ميشال عون الرئاسية وتوقيعه على مرسوم استقالة الحكومة اللبنانية، في ضوء سعي “عون” إلى عدم تمكين حكومة نجيب ميقاتي من ممارسة صلاحيات الرئيس، في إطار التجاذبات السياسية الكبيرة بينه وبين “ميقاتي”، ليشهد لبنان بذلك فراغاً مزدوجاً على المستوى الرئاسي والحكومي. وعلى الرغم من عدم فاعلية قرار إقالة الحكومة عملياً؛ إلا أنه يمثل تعبيراً عن حالة الاستقطاب السياسي التي تشهدها الساحة اللبنانية، حتى إن “عون” طالب في نهاية أكتوبر الماضي البرلمان بعقد جلسة سريعة للبرلمان لنزع التكليف من رئيس الحكومة المكلف نجيب ميقاتي وتسمية رئيس آخر نظراً لما اعتبره تقاعس ميقاتي عن تشكيل الحكومة خلال فترة ما قبل شغور منصب الرئاسة. وفي المقابل تعهد “ميقاتي” بأن الحكومة التي يرأسها ستتابع مهامها في تصريف الأعمال وفق ما يقتضيه الدستور ولوائح تنظيم عمل مجلس الوزراء، معتبراً أن توقيع عون لمرسوم استقالة الحكومة هو قرار غير ملزم، وليست له أي صفة دستورية.
وقد انعكس هذا الواقع السياسي المأزوم على الأوضاع الاقتصادية والمجتمعية في لبنان، ففي ضوء فشل البرلمان اللبناني للمرة السادسة في اختيار رئيس للبلاد، بعد تعذر حصول أي مرشح على ثلثي الأصوات؛ يُحتمل أن تمتد فترة الفراغ السياسي الحالي لأشهر عديدة، وهو الأمر الذي سيُفاقم من الأوضاع الاقتصادية المأزومة بالأساس في لبنان، في ظل الانهيار التاريخي لليرة اللبنانية مقابل الدولار، وكذلك في ظل وجود حكومة تصريف أعمال تبدو عاجزة عن اتخاذ قرارات ضرورية في ملفات ملحة، أهمها القيام بإصلاحات يضعها المجتمع الدولي شرطاً لدعم لبنان، وتمثل هذه الأوضاع بيئة خصبة بالنسبة لتنظيم داعش سيسعى لاستغلالها، سواءً على مستوى تنفيذ عمليات في لبنان، أو تجنيد بعض الفئات المهمشة تحت وطأة الظروف الاقتصادية الطاحنة، إذ دائماً ما يسعى تنظيم داعش إلى استغلال تصاعد حدة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية من أجل استقطاب عناصر جديدة للانضمام إليه.
هشاشة الأطراف
2– توظيف هشاشة الأوضاع الأمنية وخاصة في المناطق الطرفية: يسعى تنظيم داعش إلى استغلال انعكاسات التأزم السياسي والاقتصادي في لبنان على الأوضاع الأمنية، وفي هذا الصدد يركز داعش على اعتبارين؛الأول يتمثل في استغلال ما يمكن وصفه بـ”التهميش المناطقي” الشامل لبعض المساحات الجغرافية خصوصاً الطرفية كشمال لبنان، وسهل البقاع، وجنوب لبنان، مما يزيد من فرص الانتشار في هذه المناطق، والثاني يرتبط بالسعي لاستغلال هشاشة الأوضاع الأمنية في المنطقة الحدودية مع سوريا، إذ تُسهل هذه الحالة من عملية اختراق مقاتلي التنظيم للجغرافيا اللبنانية عبر موجات اللجوء أو عبر التسلل بطرق غير شرعية للبنان.
صراع مذهبي
3– السعي لاستهداف حزب الله داخل الجغرافيا اللبنانية: بعيداً عن الأهداف الاستراتيجية والأمنية التي يسعى تنظيم داعش لتحقيقها من خلال الحضور في لبنان، توجد اعتبارات أصولية وطائفية مرتبطة بسعي التنظيم لنقل ساحة المواجهة مع حزب الله اللبناني إلى داخل الجغرافيا اللبنانية، إذ ينظر التنظيم إلى الحضور في لبنان على أنه جزءٌمن صراعه الممتد مع “حزب الله” وبعض المليشيات الشيعية المسلحة في عدد من الساحات؛ إذ يرى داعش أن صراعه الطائفي والمذهبي القائم على النظر للنفس على أنه المعبر عن الاتجاه السني مع هذه المليشيات التي يرى فيها تعبيراً عن الاتجاه الشيعي “العدو القريب” مقدم حتى على الصراع مع من يصفه التنظيم بـ”العدو البعيد” أي القوى الغربية والدولية المنخرطة في الحرب ضد التنظيم، فضلاً عن أن التنظيم يرى أن حزب الله اللبناني كان من الأدوات الرئيسية التي أدت إلى تقهقره في سوريا.
مخاطر العائدين
4– توظيف “العائدين اللبنانيين” من الساحة السورية: في 30 أغسطس 2022، نشرت صحيفة “لوفيغارو” الفرنسية تقريراً بعنوان “ذهول لبنان من عودة المتشددين من سوريا”، تحدثت فيه عن أعداد المسلحين اللبنانيين الذين انضموا إلى التنظيمات المتطرفة والإرهابية والذين بدأوا بالعودة من سوريا. وأشارت الصحيفة إلى أن نحو 2000 لبناني التحقوا بصفوف التنظيمات السنية المسلحة في سوريا وعلى رأسها داعش، وبدأوا بالعودة إلى البلاد بشكل تدريجي. ومع الأوضاع السياسية المأزومة في لبنان، وعدم وجود أطر قانونية واضحة حاكمة للتعامل مع هذه المسألة، يمثل “العائدون اللبنانيون” فرصة بالنسبة لداعش يسعى لاستغلالها، وفي المقابل تهديداً أمنياً كبيراً للبنان.
إحياء الوجود
وفي الختام، يمكن القول إن سعي تنظيم داعش لتعزيز حضوره في لبنان، وجعلها بؤرة لممارسة النشاط الإرهابي، هو هدف يرتبط بالأساس بـ“فقه استغلال الأزمات” والسعي لتوظيف الأوضاع اللبنانية الحالية المأزومة، وكذا يأتي هذا التوجه في إطار استراتيجية التنظيم الجديدة القائمة على إحياء الوجود في مناطق النفوذ التقليدية في منطقة الشام والشرق الأوسط بشكل عام، اعتماداً على بعض الخلايا العنقودية، ونهج عملياتي جديد.