من بين المميزات الاستثنائية للقمة العربية فى دورتها الـ 31 ، التى عقدت فى العاصمة الجزائرية (1-2/11/2022) أنها تحدثت، ربما للمرة الأولى، عن موضوع شديد الأهمية بالنسبة للعمل العربى المشترك المتعثر والعاجز منذ عقود، عن تحقيق نجاحات لها اعتبارها وهو الدعوة إلى «عصرنة العمل المشترك، والرقى به إلى مستوى تطلعات وطموحات الشعوب العربية»، مع الأخذ فى الاعتبار المقترحات المهمة بهذا الخصوص التى تقدم بها الرئيس الجزائرى عبدالمجيد تبون للقمة، من خلال ثلاثة أطر رئيسية هى: تفعيل دور جامعة الدول العربية فى الوقاية من النزاعات وحلّها، وتكريس الثقة للشعب فى العمل العربى، وتعزيز مكانة الشباب والابتكار فى هذا العمل الشعبى.
واضح من خلال هذه التوصيات أن الجامع المشترك بينها هو إعطاء اهتمام بأن يكون الشعب العربى، فى كل الأقطار طرفاً أساسياً فى العمل المشترك وهذه بداية مهمة لنوع جديد من التفكير للحد من «سلطوية» مؤسسات العمل العربى المشترك، والتوجه لجعلها أكثر شعبوية . إدراك هذا المعنى التقطته «جمعية العلماء» فى الجزائر التى بادرت منذ أيام بالدعوة إلى «عقد قمة موازية للعلماء العرب» ليقول العلماء والخبراء من جميع التخصصات كلمتهم فى كيفية النهوض بالعمل العربى المشترك . فعلى الرغم من كل الركود الذى أصاب العمل العربى المشترك ، فإننا ندرك أن هذا الركود كان مستهدفاً في ذاته لطمس الهوية العربية، وتفكيك الرابطة العربية المشتركة ، ولذلك فإننا نعى أنه إذا كانت جامعة الدول العربية تمثل خيار الحد الأدنى للعمل العربى المشترك فإنها أضحت أمام خيار وحيد هو خيار التطوير واكتساب الفعالية اللازمة. والفعالية التى نعنيها بالنسبة لجامعة الدول العربية هى؛ أولاً: القدرة على القيام بالوظائف المنوطة بها، وثانياً القدرة على مواجهة التحديات. هناك العديد من الوظائف المهمة والأساسية، التى يجب أن تقوم بها جامعة الدول العربية ضمن مسعى إنجاز استراتيجية شاملة للنهوض العربى، يأتى فى مقدمتها الوظيفة التكاملية، أى قيادة مسعى تحقيق الاتحاد بين الدول العربية ، وثانياً الوظيفة التنموية، أى قيادة خطط التنمية المجتمعية الشاملة (الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتكنولوجية والتعليمية)، وثالثاً: الوظيفة الأمنية، أى صيانة الأمن القومى العربى ضمن مشروع للأمن الجماعى العربى . اكتساب الجامعة ومجمل مؤسسات العمل العربى المشترك تلك الفعالية يستلزم أولاً إنهاء «صراع الإرادات» الذى تلازم مع التأسيس للعمل المشترك. فقد تصارعت على هذا العمل ثلاث إرادات: إرادة تيار التوحيد ودمج الدول العربية فى إطار دولة عربية موحدة أو اتحادية، وإرادة تيار الانعزال ورفض الاتحاد والتوحد والتشبث بالسيادة المطلقة للدولة الوطنية العربية (أى الدولة القطرية) الذى يرفض كل شكل من أشكال الاندماج، وأخيراً إرادة القوى الدولية والإقليمية الحريصة على توسيع مناطق نفوذها على الأرض العربية، أو تلك الساعية لمنع تأسيس كيان عربى موحد يكون بمقدوره التأثير سلبياً على مصالحها، وتفضيل العمل مع الدول العربية منفردة . الصراع بين هذه الإرادات جعل من جامعة الدول العربية مجرد كيان استشارى تنسيقى منعدم الإرادة السياسية. فقد توارى التيار العروبى الوحدوى عن العمل العربى المشترك منذ تأسيس جامعة الدول العربية وبالتحديد منذ إعلان بروتوكول الإسكندرية الذى أخذ بصيغة «جامعة الدول العربية» وليس صيغة «الاتحاد العربى» أو حتى صيغة «الجامعة العربية». فصيغة جامعة الدول العربية أعلت من شأن الدول على شأن الجامعة، وجعلت أول وأهم أهداف جامعة الدول العربية هو الحفاظ على وجود الدول وحمايتها ككيانات مستقلة وذات سيادة، وليس تحقيق الوحدة العربية أو حتى الاتحاد، وأعطت سمواً وأولوية لمبدأ «عدم التدخل فى الشئون الداخلية» لمنع أى تواصل عربى يتجاوز سلطة أو سطوة نظم الحكم، الأمر الذى أدى بالتبعية إلى تهميش دور الشعوب فى الشأن العربى، وجعل الجامعة جامعة حكومات وليست جامعة للشعوب، وفاقم من ذلك خصوصية نظم الحكم العربية التى تهمش المشاركة الشعبية فى القرار السياسى الداخلى، ومن ثم ترفض بشدة أى نوع من أنواع المشاركة الشعبية من دول عربية فى شئون توصف بأنها «شئون داخلية خاصة». لذلك فإن أى محاولة لتطوير جامعة الدول العربية وتفعيل أدوارها لن يكتب لها النجاح إذا لم يحدث التغيير الأساسى فى مفهوم «السلطة العربية». فاحتكار السلطة على المستوى الداخلى فى الدول العربية امتد إلى المجال العربى فى شكل الغياب الكامل للحد الأدنى من السلطة عند جامعة الدول العربية. إذا لم يحدث تغيير فى علاقات السلطة فى داخل الدول العربية لن يحدث تغيير فى تقاسم السلطة بين جامعة الدول العربية والدول العربية، ولن يكون لدينا أمل فى أن نطور العمل العربى المشترك وننهض به من الإطار المحدود التنسيقى لجامعة الدول العربية إلى إطار وحدوى أو على الأقل، إلى إطار اتحادى، وهو الأمل المرتجى لـ «عصرنة العمل العربى المشترك». فعصرنا الراهن هو عصر الكتل الكبرى الإقليمية وليس عصر الدويلات الصغيرة، والنظام العالمى الذى نتلمس معالمه حالياً من نظام عالمى أحادى القطبية إلى نظام آخر متعدد الأقطاب يحقق الحد المطلوب من العدالة سيكون نظام الأمم والكتل الكبرى والدول الكبرى وليس الدول أو الدويلات . هذه الفعالية المطلوبة لجامعة الدول العربية يصعب أن تتحقق فى غياب شرطين أساسيين : الشرط الأول هو ضرورة إيجاد قيادة للنظام العربى تكون قادرة على تحمل مسئوليات النهوض بالعمل العربى الوحدوى نحو تحقيق الأهداف. فلابد من خلق قيادة عربية يكون فى مقدورها تفعيل القدرات العربية واستنهاض الطاقات والعمل مجدداً فى اتجاه إعادة التوحيد بعد مواجهة موجات الانفراط . الشرط الثانى: هو التوافق العربى على أجندة عمل عربية ذات أولويات محددة، أجندة عمل للإنقاذ حتماً سيأتى على رأس أولوياتها الدفاع عن وحدة وتماسك الدولة الوطنية العربية والحيلولة دون انفراطها، إضافة إلى طرح مشروع لنظام عربى يؤسس لـ «اتحاد عربى» يضع نصب أعينه هدف تحقيق التكامل ثم الاندماج العربى الاقتصادى والسياسي والعسكرى . وهكذا تكون «عصرنة» العمل العربى المشترك.
نقلا عن الأهرام