القمم العربية.. وواقع المنطقة – الحائط العربي
القمم العربية.. وواقع المنطقة

القمم العربية.. وواقع المنطقة



مع انعقاد كل قمة عربية، يتذكر كثيرون من جديد أن هناك منظمة إقليمية اسمها جامعة الدول العربية، تأسست في عام 1945 وقبل ظهور هيئة الأمم المتحدة نفسها، بأهداف طموحة تتعلق بإرساء نظام إقليمي عربي قوي، وتعزيز العلاقات البينية في عدد من المجالات، وتسوية النزاعات المختلفة.

ومنذ تأسيسها المبكر، لم تراوح الهيئة مكانها، ولم تستطع تحقيق مكتسبات في مستوى التحديات والمخاطر التي مرت بها المنطقة، أو انتظارات شعوبها، ذلك أن العديد من الدول العربية واجهت الكثير من المصاعب الناجمة عن صراعات داخلية، أو تدخلات خارجية، فيما عمقت المشاكل الاجتماعية والتنموية معاناة بلدان، ما خلف مظاهر خطيرة من تهديد الاستقرار والسلم الاجتماعي.

رغم الحماس الكبير الذي واكب إنشاء المنظمة، والمبادئ التي قامت عليها في علاقة ذلك بمنع استخدام القوة، وعدم التدخل في سيادة الدول العربية، وتسوية المنازعات بشكل سلمي، وكذا الأهداف النبيلة التي سعت إلى تحقيقها في ارتباط ذلك بتعزيز العلاقات بين الدول الأعضاء، والحرص على استقلالها، وتنسيق العمل والسياسات والبرامج بينها في مختلف الميادين والمجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتقنية.. إلا أن الأساس الذي بنت عليه كل هذه المبادئ والأهداف ظل هشاً، ذلك أن العديد من مقتضيات الميثاق كرست المركزية المفرطة في اتخاذ القرار، بوضع الصلاحيات التقريرية أمام رؤساء الدول، فيما تم تقزيم أدوار عدد من الأطراف كالبرلمان العربي، وهيئات المجتمع المدني، والنخب المختلفة والفاعلين الاقتصاديين، فيما تم اعتماد الإجماع كقاعدة للتصويت، وهي آلية متجاوزة، حرصت الكثير من التكتلات الإقليمية والدولية المعاصرة على تلافيها، لما لها من انعكاسات سلبية على مستوى تعطيل القرارات وإفراغها من محتواها.

استطاعت الكثير من النظم الإقليمية في أوروبا وآسيا وأمريكا اللاتينية أن تتطور بشكل لافت خلال العقود الثلاثة الماضية، مستفيدة في ذلك من الدروس المهمة التي أفرزتها ظروف ما بعد الحرب الباردة، حيث انخرطت في تطوير أدائها وتشبيك العلاقات الاقتصادية، وكسر الكثير من الحواجز الجمركية والسياسية والجغرافية بين أعضائها، ما جعلها تحقق الكثير من الإنجازات التي مكنتها من تبوُّؤ مكانة متميزة بين الأمم.

وبالعودة إلى الدول العربية، التي حباها الله بموقع استراتيجي، وخيرات طبيعية مهمة، وطاقات بشرية شابة، ومشترك حضاري تاريخي هائل، فهي ما زالت تعيش على إيقاع التشتت والنزاعات البينية وضعف التنسيق الاقتصادي والأمني والدبلوماسي، ما وفر كل العوامل المغذية لاختراق النظام الإقليمي، عبر تدخلات خطيرة أصبحت تقودها الكثير من القوى الإقليمية والدولية الكبرى، بما عمّق الجراح أكثر، وعرقل كل سبل الإصلاح السياسي والتنموي التي تنشدها شعوب المنطقة.

تتوالى القمم وتتزايد الإحباطات، ما جعل المواطن العربي يفقد كل الثقة في العمل العربي المشترك، فهذه اللقاءات غالباً ما تعقد وهي تحمل بين جنباتها كل عوامل الفشل، ما يجعلها مناسبات مألوفة لإطلاق الشعارات والوعود بغد أفضل، في حين أن الواقع العربي بتناقضاته وانكساراته، يؤكد أن المنطقة في وادٍ، والجامعة وحساباتها في وادٍ آخر.

فالدول العربية تظل هي الأقل ارتباطاً بالمصالح التجارية والاقتصادية مقارنة بنظم إقليمية أخرى، كما أن المنطقة العربية تتموقع على رأس أكثر المناطق توتراً على المستوى العالمي، وهو ما تؤكده الأوضاع المتأزمة في كل من العراق وسوريا واليمن وليبيا وفلسطين، علاوة على العلاقات العربية البينية التي يطبعها التوتر أحياناً والقطيعة أحياناً أخرى، إضافة إلى التباين الحاصل في مواقف الدول العربية إزاء عدد من الأزمات والقضايا الإقليمية والدولية.

إن المراهنة على الجامعة العربية في ظل هذا الوضع المتردي، هي مراهنة خاسرة، ولذلك لا يمكن أن ننتظر من الجامعة أكثر مما تحتمل، فهي تظل مجرد بنية تجسد واقع هذه العلاقات العربية بصراعاتها البينية، وحساباتها الضيقة ونظمها المركزية.

إن الحديث عن لمّ الشمل العربي، ينبغي أن يترجم في سلوك الدول، لا أن يكون مجرد خطاب للاستهلاك السياسي والإعلامي، فالأمر يقتضي إعطاء إشارات واضحة بأن هناك رغبة فعلية في تعزيز العلاقات البينية، والامتناع عن التحريض ضد سيادة الدول ووحدتها، والمراهنة على وحدة الصف العربي، وعدم الصمت على الأجندات والتدخلات الإقليمية التي أسهمت بشكل كبير في تعقيد الأوضاع في عدد من دول المنطقة.

ينطوي إصلاح نظام الجامعة العربية على أهمية قصوى في الوقت الراهن الذي تشهد فيه المنطقة تنافساً إقليمياً وتدخلاً أجنبياً واضحاً، وما يعرفه العالم من تبدلات استراتيجية كبرى تحيل إلى إرساء نظام دولي بتوازنات جديدة، وبالنظر أيضاً لما طرحته الحرب الروسية في أوكرانيا من إشكالات أمنية خطيرة تجاوزت البعد العسكري إلى أبعاد طاقية وغذائية من المؤكد أنها ستطول دولاً من المنطقة.

والواقع أن إصلاح الجامعة لا يمكن أن يتحقق إلا بإرادة حقيقية للدول العربية، بصورة تطوي معها الخلافات والحسابات الضيقة، في إطار من التعاون والتنسيق الجماعي.

نقلا عن الخليج