تشهد صناعة الطاقة العالمية تحولات جذرية تصب في صالح الطاقة الخضراء، والتي تمثل أبرزها في تزايد تحركات بعض الدول لأن تصبح منتجاً ومُصدّراً رئيسياً لذلك النوع من الطاقة، وذلك تماشياً مع التوجهات العالمية والرؤى الوطنية التي ترسخ لذلك الأمر، وللتركيز على إقامة شراكات استراتيجية تُعنَى بخلق مراكز لصناعة الطاقة الخضراء حول العالم لاعتبارات مصلحية، وكذا إعادة هيكلة سوق الطاقة العالمية لإنهاء سيطرة بعض الدول على سوق الطاقة، أخذاً في الاعتبار أن التحركات الدولية المكثفة تتزامن مع اقتراب عقد مؤتمر “كوب 27” الذي يمكن الاستفادة منه في تعزيز التحول للطاقة المتجددة والنظيفة من جهة، وتبلور الأنشطة والاستخدامات المصاحبة للطاقة الخضراء والفوائد المرجوة منها من جهة أخرى.
شهدت الفترة الأخيرة العديد من التحركات الرامية لإرساء قاعدة راسخة من أجل التحول للطاقة الخضراء في المستقبل، وذلك بين الأقطار المتباعدة، والتي كان آخرها توقيع دولة الإمارات مع الولايات المتحدة الأمريكية مؤخراً اتفاقاً لاستثمار 100 مليار دولار في تنفيذ مشروعات للطاقة النظيفة في البلدين ومختلف أنحاء العالم بحلول عام 2035، إضافة إلى قيام الدكتور “سلطان بن أحمد الجابر” وزير الصناعة والتكنولوجيا المتقدمة المبعوث الخاص لدولة الإمارات للتغير المناخي، و”روبرت هابيك” نائب المستشار الألماني وزير الشؤون الاقتصادية وحماية المناخ، ببحث سبل التعاون في الطاقة النظيفة (في 21 أكتوبر بهامبورج).
في السياق ذاته، قام وزير الطاقة السعودي الأمير “عبدالعزيز بن سلمان” بعقد مباحثات مع عدد من المسؤولين الأوروبيين لبحث التعاون في مجال الطاقة الخضراء، على رأسهم وزيرة تحول الطاقة الفرنسية “أجنيس بانيير روناتشر”، و”تيريزا ريبيرا رودريجز” نائبة رئيس الحكومة الإسبانية، ووزير البيئة والطاقة اليوناني “كوستاس سكريكاس”، إضافة إلى زيارة وفد سعودي في نوفمبر الجاري برئاسة “ماجد القصبي” وزير التجارة ورئيس مجلس إدارة الهيئة العامة للتجارة الخارجية، إلى فنلندا لبحث التعاون في عدة مجالات من ضمنها قطاع الطاقة ولا سيما الخضراء.
أسباب التحرك
تتمثل أهم أسباب تزايد الاهتمام بتطوير التعاون في مجالات الطاقة الخضراء خلال الفترة الماضية في التالي:
1- التوافق مع التوجهات الدولية للاعتماد على الطاقة الخضراء: كشفت الرؤى الوطنية لعديد من الدول عن وجود رغبة ملحة في اعتماد خطط التحول الطاقوي بأسرع وقت للوصول إلى مزيج طاقة متوازن يضمن تزايد الاعتماد على الطاقة النظيفة بحلول عام 2030 و2050. فعلى سبيل المثال، تطمح السعودية لأن تشكل الطاقة المتجددة 50% من إنتاج الكهرباء بحلول 2030، بينما تستهدف الإمارات أن تشكل الطاقة النظيفة والمتجددة 50% من مزيج الطاقة في 2050، الأمر الذي يدفع إلى البدء سريعاً لتحقيق تلك الرؤى في ضوء الزخم والمنافسة المتزايدة لحجز دور فاعل في خريطة الطاقة العالمية الجديدة، وما أسفرت عنه تداعيات الحرب الروسية/ الأوكرانية للحاجة إلى إيجاد بدائل مستدامة للطاقة.
يتناغم ذلك مع التوجهات العالمية الرامية لإحلال الطاقة الأحفورية واستبدالها بالطاقة النظيفة والمتجددة بحلول 2050، وذلك من خلال الوصول لمزيج طاقة عالمي، وفق سيناريو متفائل لوكالة الطاقة الدولية، تتراجع فيه حصة الطاقة الأحفورية من نحو 80% إلى 20% (انظر الشكل رقم 1)، وبالتالي فإن عقد شراكات في إنتاج وتصدير الطاقة الخضراء سيكون من أهم ملامح قطاع الطاقة المستقبلي، خاصة وأنه سيكون هناك دعم من الدول المتقدمة لاعتماد ذلك التوجه في الدول النامية والفقيرة.
شكل (1): تطور مزيج الطاقة العالمي خلال الفترة 2020/2050
وفق خريطة الطريق “صافي الانبعاثات الصفري” لوكالة الطاقة الدولية
2- استحداث نهج الشراكات الاستراتيجية في الطاقة الخضراء: يتضح من الاتفاقات والشراكات التي تم عقدها في مجال التعاون بالطاقة الخضراء مؤخراً، محاولة الارتقاء بالنهج المعمول به حالياً في مجالات الاستكشاف والتنقيب وإنتاج الطاقة الأحفورية، وذلك من مجرد عقود شراكة بحصص متنوعة بين شركات الطاقة، إلى عقد شراكات تُعنَى بها الدول ومؤسساتها بالأساس، ومن خلالها يتم توكيل شركاتها للعمل في مشاريع الطاقة الخضراء. ولعل النموذج الأخير الأبرز في هذا الصدد توقيع مفوضة الشراكات الدولية بالاتحاد الأوروبي “جوتا أوربيلينن” ومديرة الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية “سامانثا باور” (في 14 أكتوبر 2022)، مذكرة تفاهم لتوليد الطاقة المتجددة في دول أفريقيا جنوب الصحراء بهدف تعزيز الاعتماد على الطاقة الخضراء.
ويًشار إلى أن التحرك السعودي والإماراتي يحاكي ذلك النهج الجديد، وهو ما اتّضح في اتفاق الشراكة بين الإمارات والولايات المتحدة الأخير، والذي يستهدف ضخ استثمارات بـ100 مليار دولار في البلدين ودول أخرى للتعاون في الطاقة الخضراء، ويعزز من ذلك التوجه إطلاق السعودية “مبادرة الشرق الأوسط الأخضر”، التي تركز على تعاون سعودي مع دول المنطقة للتحول للطاقة الخضراء، والتي سيتم تفعيلها الفترة المقبلة، حيث أكد الأمير “محمد بن سلمان” ولي العهد رئيس مجلس الوزراء، رئيس اللجنة العليا للسعودية الخضراء، أنه سيتم إطلاق النسخة الثانية من “قمة مبادرة الشرق الأوسط الأخضر” يوم 7 نوفمبر خلال مؤتمر “كوب 27”.
ويُرى أن النموذج الغربي في إقامة شراكات استراتيجية عابرة للحدود في الطاقة الخضراء، لا يتعلق بتحقيق جدوى اقتصادية من تعزيز دور شركاتها بالدول التي ستقام بها مشروعات الطاقة الخضراء فحسب، بل السيطرة على المعادن المستخدمة في تلك الصناعة، حيث تزخر العديد من الدول النامية بتلك المعادن، مثل الكوبلت في جمهورية الكونغو الديمقراطية وموزمبيق، والليثيوم في زيمبابوي، والبوكسيت في غينيا، لا سيما وأن تلك المعادن ستوفر إيرادات كبيرة لتلك الدول والشركات الأجنبية العاملة بها من خلال تصديرها، ويوضح الجدول رقم (1) التزايد المتوقّع في إيرادات تصدير بعض المعادن من منطقة أفريقيا جنوب الصحراء.
جدول (1): تطور إيرادات صادرات أبرز المعادن المستخدمة في صناعة الطاقة الخضراء بأفريقيا جنوب الصحراء خلال الفترة (2020-2030)
3- إعادة هيكلة سوق الطاقة العالمية: تعكس التحركات الحالية محاولات الدول الغربية لإعادة هيكلة سوق الطاقة العالمية، لا سيما تقليص سيطرة المنتجين الحاليين للطاقة التقليدية على تلك السوق، وذلك من خلال تنويع ونشر مراكز إنتاج الطاقة المتجددة حول مناطق العالم، بناء على الإمكانات والموارد الطبيعية بتلك المناطق (مثل الطقس، المعادن في باطن الأرض..)، وقد يصاحب ذلك تغير في خريطة التحالفات والعلاقات السياسية الداعمة لصناعة الطاقة، ويبرهن على ذلك التحركات الأوروبية المكثفة تجاه منطقة شمال أفريقيا نظراً للقرب الجغرافي وإمكانات دولها في إنتاج الطاقة الخضراء، وكذا دول الخليج (خاصة السعودية والإمارات) التي تملك إمكانات وخبرات في صناعة الطاقة، وكذا تبنيها رؤى وطنية طموحة ترشحها لأن تصبح مركزاً عالمياً لصناعة وتصدير الطاقة الخضراء، بينما تمتلك دول وسط وغرب أفريقيا عدة معادن مهمة في صناعة الطاقة الخضراء (انظر الشكل رقم 2).
شكل (2): خريطة تركز المعادن المستخدمة في الطاقة الخضراء بأفريقيا جنوب الصحراء
4- اقتراب موعد انعقاد مؤتمر “كوب 27” ومحاولة الاستفادة منه: تُعقد العديد من الآمال على ذلك المؤتمر الذي سيُعقد في نوفمبر الجاري، خاصة وأنه من المرجح التوصية باتخاذ خطوات جادة لضخ تمويلات كبيرة لتسريع التحول للطاقة الخضراء، لذا فإن عقد اتفاقات أو شراكات في الفترة قبل عقده تبرز جدية الدول في هذا الصدد، وما يشجع الشركات العالمية ودول أخرى أن تقوم بتوقيع اتفاقات جديدة معها، مع التركيز على مجال البحث العلمي والتطوير الذي يُعد عنصراً أساسياً في انتشار الطاقة الخضراء، ويُرى أن ذلك المؤتمر قد يتميز عن غيره من المؤتمرات السابقة في أنه سيرسخ لتعاون مشترك ومستدام بين الدول والشركات والمؤسسات الدولية لتعزيز التحول للطاقة الخضراء، نظراً إلى أنه يأتي في خضمّ صدمتين عالميتين (جائحة كورونا والحرب الروسية/ الأوكرانية)، والحاجة إلى الاعتماد على بدائل جديدة ومتنوعة للطاقة، إضافة إلى تزايد الانتقادات الموجهة بشأن عدم تحقيق تطور في تقليص الانبعاثات الكربونية من الطاقة الأحفورية خلال العقد الماضي (انظر الجدول رقم 2).
جدول (2): الانبعاثات السنوية لثاني أكسيد الكربون العالمية من الطاقة الأحفورية (بالمليار طن)
5- تبلور الأنشطة والاستخدامات المصاحبة للطاقة الخضراء: يشهد التحول للطاقة الخضراء زخماً ليس لمجرد أنه يُسهم في مواجهة التحول المناخي فحسب، بل في كونها صناعة وليدة نسبياً ستعزز من اقتصادات العديد من الدول، حيث ستسهم في خلق نحو 38 مليون وظيفة جديدة عالمياً بحلول عام 2030، ليرتفع العاملون في مجالات وأنشطة الطاقة النظيفة إلى نحو 139 مليون وظيفة، وبالتالي ستعوض خسارة الوظائف الناجمة عن تقليص الاعتماد على الطاقة الأحفورية التي ستبلغ نحو 106 ملايين وظيفة (وفق تقديرات الوكالة الدولية للطاقة المتجددة في مارس 2022). ووفق بعض التقديرات قد تتركز الوظائف الجديدة بشكل كبير في مجالات كفاءة الطاقة وتوليد الطاقة الخضراء (انظر الجدول 3).
جدول (3): خريطة إسهام الطاقة الخضراء في خلق وظائف جديدة
وفقاً لعدد الوظائف الجديدة المتوقّعة، ستسهم صناعة الطاقة الخضراء في مواجهة تزايد معدلات البطالة الناتجة عن تزايد عدد السكان، وكذا اختفاء العديد من الوظائف بسبب التطور التكنولوجي وتغير أذواق المستهلكين، وبالتالي فإن بدء العمل على تعميق ذلك القطاع سيسفر عنه العديد من الإيجابيات التي تعزز من اقتصادات الدول التي ستوليها الاهتمام المطلوب، وسيضمن لها دوراً فاعلاً في سوق الطاقة العالمية مستقبلاً في ضوء التحديات التي تواجه صناعة الطاقة.
تعزيز الشراكات
في الختام، فإن تزايد الاتجاه إلى تبني استخدامات الطاقة الخضراء في العديد من المجالات يدفع المجتمع الدولي لبدء توليد ذلك النوع من الطاقة في أسرع وقت، وذلك في الوقت الذي لا تزال هناك إمكانية لتعزيز الشراكات العابرة للحدود في هذا المجال في ضوء الانفتاح والرغبة في التحول سريعاً بعيداً عن الطاقة الأحفورية، وستحظى الدول المصدرة للطاقة الخضراء بدور استراتيجي في مواجهة تهديدات أمن الطاقة العالمي، كما ستصبح شريكاً فاعلاً في العديد من الصناعات والأنشطة التي ستعتمد على ذلك النوع من الطاقة، ويُرجح أن يصبح مؤتمر “كوب 27” نقطة فاصلة في صناعة الطاقة العالمية، ولا سيما الخضراء التي سيزداد الاهتمام بها بشكل أكبر خلال الأعوام المقبلة، وسيكون محور الارتكاز الحتمي لتحقيق طفرة في إنتاج وتصدير الطاقة الخضراء هو التعاون الثنائي والمتعدد الأطراف بدون تحفظات تتعلق باحتكار تكنولوجيا تلك الصناعة.