إصلاحات جذرية:
لماذا لجأت الحكومة التونسية إلى خصخصة المؤسسات العامة؟

إصلاحات جذرية:

لماذا لجأت الحكومة التونسية إلى خصخصة المؤسسات العامة؟



تتجه الحكومة التونسية الحالية إلى خصخصة بعض المؤسسات والشركات العامة المملوكة للدولة؛ حيث ترى أن هذه المؤسسات أصبحت تمثل عبئاً على الاقتصاد المتهالك، وأن بيعها في الوقت الحالي سوف يوفر إيرادات مالية تساعد الدولة على حل مشكلاتها الاقتصادية، كما أنّ ذلك يأتي تنفيذاً للاتفاق الموقّع مع صندوق النقد الدولي الذي يقضي بإجراء إصلاحات اقتصادية للحصول على القروض التي ترغب الدولة في الحصول عليها؛ إلا أن هذه الإصلاحات يعترض عليها اتحاد الشغل الذي أعلن رفضه لها وتصديه لتطبيقها.

كشف “نور الدين الطبوبي” الأمين العام للاتحاد التونسي العام للشغل في تصريحات لجريدة “الشعب نيوز” التونسية، في 31 أكتوبر 2022، أن الحكومة الحالية برئاسة “نجلاء بودن” تتجه إلى تنفيذ تعهداتها لصندوق النقد الدولي ببيع بعض الأصول المملوكة للدولة، ومنها “بنك الإسكان” ومصنع “التبغ والقيد”، وأيضاً عدد من الأرصفة بميناء “رادس”، وهو ما يتماشى مع توجهات الحكومة الحالية لخصخصة بعض مؤسسات الدولة، وهو ما يرفضه اتحاد الشغل ويدعو الحكومة لمراجعة منظومة الدعم بالشكل المطروح من قبل الاتحاد في تصوره المقدم سابقاً لها، وإذا لم تستجب الحكومة لذلك فسوف يواصل الاتحاد نضاله للتصدي لهذه الإجراءات.

يمكن تفسير اتجاه الحكومة التونسية الحالية برئاسة “بودن” نحو خصخصة بعض المؤسسات العامة المملوكة للدولة، من خلال بعض الأسباب التي دفعتها لذلك، ومن أهمها ما يلي:

1- تنفيذ الاتفاق مع صندوق النقد الدولي: حيث يُعد التوجه نحو خصخصة بعض مؤسسات الدولة التونسية تنفيذاً للاتفاق المبرم مع صندوق النقد الدولي لإجراء إصلاحات اقتصادية جذرية، تشمل: خفض الدعم الحكومي المخصص للغذاء والطاقة، وتجميد الأجور والانتدابات في الوظائف العامة، وكذلك إعادة هيكلة المؤسسات العامة التي تعاني عجزاً مالياً وتمثل عبئاً إضافياً على الدولة، وذلك بعدما توصلت الحكومة التونسية إلى اتفاق مع الصندوق في شهر أكتوبر الماضي يقضي بحصول البلاد على قرض بقيمة 1.9 مليار دولار، على أن يتم تنفيذ ذلك في شهر ديسمبر القادم.

2- إعادة هيكلة الشركات العامة المتعثرة: ترى الحكومة التونسية التي تستند إلى آراء خبراء الاقتصاد في الدولة أن خصخصة المؤسسات العامة (10 شركات من أصل 200 شركة عامة مملوكة للدولة) التي تعاني صعوبات مالية تصل إلى حد الإفلاس يعد أمراً ضرورياً في هذا التوقيت الذي تعاني فيه البلاد أزمة اقتصادية متفاقمة، خاصة وأن هذه المؤسسات أصبحت تمثل عبئاً على الاقتصاد الوطني الهش. إذ تشير الإحصائيات التونسية إلى أن هذه المؤسسات تسببت في خسائر قُدرت بحوالي 4 مليارات دينار في عام 2016، وارتفعت ديونها لتصل إلى 6.5 مليارات دينار (حوالي مليار دولار) بنهاية عام 2021، وهو ما دفع الحكومة لوضع قائمة بالمؤسسات العامة وتدقيق وضعها من خلال توظيف مكاتب تدقيق خارجية، وإعداد برنامج لتسوية ديونها مع الدولة، وتصفية الديون المتراكمة عليها، وذلك تنفيذاً لمشروع قانون صادقت عليه الحكومة في ديسمبر 2019 يقضي بتشكيل هيئة لحوكمة المنشآت والمؤسسات العامة.

3- إنعاش الاقتصاد الوطني المتهالك: ترى الحكومة أيضاً أن قرار خصخصة بعض المؤسسات العامة المملوكة للدولة من شأنه المساهمة في إنعاش الاقتصاد الوطني الذي يتطلب إجراءات إصلاحية عديدة، وهو ما أكد عليه محافظ البنك المركزي “مروان العباسي” بالإشارة إلى أن الدولة سوف تبدأ إصلاحات اقتصادية قد تبدو صعبة للمواطن العادي، ولكنها ضرورية في الوقت الحالي، خاصة وأنّ إجراءها تأخر لسنوات عدة، مما أدى إلى تفاقم المشكلات الاقتصادية في البلاد، ومن مؤشراتها نقص بعض السلع والمواد الغذائية الأساسية التي يحتاجها المواطنون لسد احتياجاتهم اليومية منها. وتشير المصادر المحلية إلى أن خصخصة بنك الإسكان ووكالة التبغ سوف يدر على الدولة مكاسب مالية تقدر بحوالي 2.77 مليار دولار، وبالتالي فإن بيع هذه المؤسسات أو الشركات سوف يوفر سيولة مالية تُضاف إلى خزينة الدولة، وكذلك الحصول على قرض الصندوق الدولي.

سياسات خاطئة

في المقابل، يبرز موقف الاتحاد التونسي العام للشغل الذي أبدى معارضته لإجراءات الإصلاح الاقتصادي المزمع تنفيذها خلال الفترة القادمة في البلاد، وتهديده للحكومة بالتصدي لهذه الإجراءات (دون أن يحدد ماهيتها). ويستند موقف اتحاد الشغل المعارض لهذه الإجراءات إلى ما يلي:

1- ضبابية الاتفاق مع صندوق النقد الدولي: يستند اتحاد الشغل في موقفه المعارض لإجراءات الإصلاح الاقتصادي الحالية إلى أن الاتفاق الذي تم التوقيع عليه بين الحكومة برئاسة “بودن” وصندوق النقد الدولي في أكتوبر الماضي لم يتم عرض تفاصيله وبنوده على القوى السياسية والمدنية، وهو ما دفع الاتحاد وبعض الأحزاب السياسية المعارضة، ومنها حزب الدستوري الحر، لمطالبة الحكومة بالكشف عن نص هذا الاتفاق، ونشر التعهدات التي قطعتها الحكومة على نفسها للحصول على هذا القرض. ويبررون هذا الطلب بأن الحكومات السابقة وقّعت اتفاقات مع صندوق النقد الدولي ولم يتم تنفيذها مما ترتب عليه قطع المساعدات والقروض الدولية، وهو ما أدى إلى مزيد من التدهور الاقتصادي في البلاد.

2- أخطاء الحكومة في توزيع الدعم على المجتمع: يرى الاتحاد العام للشغل أن الإصلاحات الاقتصادية التي تنوي الحكومة تطبيقها من شأنها تكريس الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتدهورة لفئات كثيرة داخل المجتمع التونسي، والسبب في ذلك ما ترتكبه الحكومة من أخطاء في توزيع الدعم وليس فقط الفئات والعائلات الفقيرة، حيث يرى الاتحاد أن فئات أخرى مثل المعلمين وموظفي المؤسسات العامة والقطاع العام يحتاجون إلى دعم لهم، وهو ما يتطلب مراجعة منظومة الدعم، خاصة وأن الحكومة تنوي رفع الدعم التدريجي حتى يصل إلى رفعه بشكل كامل بحلول عام 2026، وذلك وفقاً لتصريحات وزير المالية “سهام نمصية البوغديري”، وهو ما يعارضه الاتحاد في ظل انهيار القدرة الشرائية للمواطنين حالياً.

3- استقلالية وحيادية موقف الاتحاد: يتمسك اتحاد الشغل بموقفه الرافض لإجراءات الإصلاح الاقتصادية المشار إليها التي تعبر عن إيمانه بالقضية التي يدافع عنها، وذلك من أجل توجيه الدعم لمستحقيه من الفئات المعوزة داخل المجتمع، وذلك للتأكيد على استقلالية وحيادية موقف الاتحاد. فرغم توقيعه اتفاقاً مع الحكومة الحالية في شهر سبتمبر الماضي لزيادة أجور ورواتب 670 ألف موظف في المؤسسات العامة والقطاع العام بنسبة 5% على ثلاث سنوات، إلا أن الاتحاد يواصل معارضته لسياسات وإجراءات الحكومة وينتقد أداءها الضعيف على المستوى الاقتصادي تحديداً، ويواصل ضغوطه على الرئيس “قيس سعيد” وحكومته لإشراكه وباقي القوى السياسية والمجتمعية في إجراءات الإصلاح السياسي والاقتصادي والدستوري في البلاد. ورغم ذلك يعلن الاتحاد دوماً تمسكه بمواقفه المعارضة بعيداً عن مواقف الأحزاب السياسية المعارضة، ويرفض استغلال الأخيرة لمواقفه المعارضة لسياسات الحكومة الحالية.

4- تردي الأوضاع الاقتصادية والمعيشية للعمال: يأتي موقف اتحاد الشغل المعارض لإجراءات الإصلاح التي أعلنتها الحكومة، احتجاجاً على استمرار الأوضاع الاقتصادية والمعيشية للعمال، وهو ما دفع اتحاد الشغل لتحذيرها من خطورة التداعيات المترتبة على الاستمرار في هذه الإصلاحات. وكانت أولى رسائل التحذير في إعلان “الاتحاد الجهوي للنقل بتونس الكبرى”، في 2 نوفمبر الجاري، تنظيم إضراب مفتوح في العاصمة تونس، مبررين ذلك بعدم حصول العمال على أجورهم، وعدم اهتمام وزارة النقل بتنفيذ مطالب العمال، غير أن الإعلان المفاجئ عن تنظيم هذا الإضراب يعكس ردة فعل اتحاد الشغل تجاه ما تم الإعلان عنه بخصوص عزم الحكومة خصخصة بعض المؤسسات العامة المملوكة للدولة.

5- غياب ضمانات حفظ حقوق العمال: يشكك اتحاد الشغل كذلك في التزام الحكومة بتنفيذ تعهداتها والتزاماتها الخاصة بحقوق العمال وموظفي المؤسسات العامة، ومن ذلك الاتفاق الخاص بزيادة أجورهم على ثلاث سنوات. وما يثير هذه الشكوك هو عدم إفصاح الحكومة عن برنامج الإصلاح الاقتصادي بشكل واضح، والإعلان عن خصخصة بعض المؤسسات العامة دون تقديم ضمانات بشأن مصير العاملين في هذه المؤسسات بعد خصخصتها، وهو ما يدفع الاتحاد للإعلان عن اتخاذه إجراءات لحفظ حقوق العمال ورفض بيع هذه المؤسسات لأنها غير مجدية.

سيناريوهات محتملة

وفي ضوء الإعلان الحكومي عن الاتجاه لخصخصة بعض المؤسسات العامة المملوكة للدولة، ومعارضة الاتحاد التونسي العام للشغل لهذه الإجراءات، فإنه يمكن التكهن ببعض السيناريوهات المحتمل حدوثها في هذا السياق، ومن ذلك ما يلي:

السيناريو الأول- تنفيذ إجراءات الخصخصة: ويرجح هذا السيناريو أن تتجه الحكومة بالفعل إلى خصخصة بعض الشركات المفلسة عن طريق بيعها للقطاع الخاص، مع التركيز على المؤسسات المفلسة منها بالفعل والتي تمثل عبئاً على الاقتصاد التونسي. وفي هذا الإطار، قد تتجه الحكومة إلى الدخول في شراكات مع القطاع الخاص لإصلاح المؤسسات المتعثرة، كما أن الحكومة مقتنعة بضرورة تنفيذ هذه الإجراءات لحل المشكلات الاقتصادية المزمنة، علاوة على ذلك تدرك الحكومة أن هذه الإجراءات من شأنها التأثير إيجاباً على الطبقات المتوسطة والفقيرة داخل المجتمع، حيث يوجد العديد من الخبراء الذين يؤيدون هذه الخطوة على أساس أنها سوف تجعل الاقتصاد الوطني أكثر قوة، ويوفر مزيداً من فرص العمل، ويسهل على رواد الأعمال الحصول على تمويلات لدعم أعمالهم.

السيناريو الثاني- تصعيد نقابي لمنع الحكومة من الخصخصة: ويرجح هذا السيناريو أن يتجه الاتحاد التونسي العام للشغل لمواصلة ضغوطه على الحكومة في محاولة منه لإقناعها بأن ما تتخذه من إجراءات إصلاحية في الوقت الحالي غير مجدية، خاصة وأنه ستكون لها تداعيات على الطبقات والعائلات الفقيرة داخل المجتمع، كما أنه يرى أن المؤسسات التي تنوي الحكومة بيعها تعتبر من الأصول التي تعود ملكيتها للشعب ولا يجوز التفريط فيها. ومع إصرار الحكومة على عدم الأخذ بآراء الاتحاد، فمن المتوقع أن يمارس الاتحاد دوره المعارض مع توظيف ورقة الإضرابات العامة لعرقلة هذه الإصلاحات أو على أقل تقدير إحراجها أمام الرأي العام الداخلي. إلا أن هذا التصعيد قد يؤثر سلباً على صورة الدولة التونسية أمام المؤسسات الدولية المانحة وعلى رأسها صندوق النقد الدولي.

تصعيد محتمل

خلاصة القول، يكشف الحديث عن اتجاه الحكومة التونسية الحالية لخصخصة بعض المؤسسات والشركات العامة التي تعاني أوضاعاً مالية صعبة، عن محاولات الحكومة لإخراج البلاد من أزمتها الاقتصادية المتفاقمة عبر إجراء إصلاحات اقتصادية جذرية؛ إلا أن عدم الإفصاح عن برنامج الإصلاح الاقتصادي أدى إلى إثارة موقف اتحاد الشغل، مع ترجيح أن تتجه علاقة الاتحاد والحكومة نحو مزيدٍ من التصعيد خلال الفترة القادمة.