وصل وفد من وزارتي الخارجية والمالية الأمريكيتين، في 20 أكتوبر الجاري، إلى تركيا لإجراء محادثات بشأن الملفات الخلافية، فضلاً عن تطوير العلاقات الاقتصادية مع قطاع رجال الأعمال التركي. كما قام مجلس الشيوخ الأمريكي، في 12 أكتوبر الجاري، بإلغاء الشروط الخاصة المتعلقة ببيع طائرات F16 إلى تركيا، في رسالة تهدئة مباشرة مع تركيا، وتراجع عن سياسة واشنطن بضرورة معاقبة أنقرة. كما تأتي هذه الخطوات في إطار اهتمام الإدارة الأمريكية بخفض التصعيد مع تركيا في الملفات الخلافية، وهو ما عكسته تصريحات السفير الأمريكي لدى أنقرة، والذي أكد على أن بلاده ليست مع طرف دون آخر في بحر إيجه، مشيراً إلى حرص واشنطن على تعزيز التعاون مع دول الناتو، وحل التوترات بين أعضائه بالطرق الدبلوماسية.
تهدئة لافتة
اتجهت واشنطن خلال الأيام القليلة الماضية إلى خفض مساحات التصعيد مع تركيا في عدد من الملفات العالقة، وهو ما يمكن تفصيله على النحو التالي:
1- التراجع عن منع توريد طائرات F16: كان موقف الولايات المتحدة يقوم على استمرار العقوبات العسكرية على تركيا، ومنع الدخول معها في صفقات تسليحية بعد حصولها على منظومة الدفاع الروسية S400. غير أن المؤسسات الأمريكية، وبخاصة مجلس الشيوخ، بدأ في التخلي نسبياً عن هذه السياسة في الفترة الحالية، ومن مؤشرات ذلك إلغاء الشروط الخاصة المتعلقة ببيع طائرات “إف-16” إلى أنقرة خلال اجتماع مجلس الشيوخ الأمريكي في 12 أكتوبر الجاري لمناقشة مشروع قانون تفويض الدفاع الوطني (NDAA) لعام 2023.
2- تكثيف اللقاءات والاتصالات بين الوفود الوزارية: حرصت الولايات المتحدة على تعزيز تواصلها مع الحكومة التركية خلال الشهور التي خلت، وتجلى ذلك في وصول وفد من وزارتي الخارجية والمالية الأمريكيتين، في 20 أكتوبر الجاري، إلى تركيا لإجراء محادثات مع نظرائهم الأتراك، وكذلك مع قطاع رجال الأعمال التركي. وأجرى الطرفان محادثات بالعاصمة التركية أنقرة. ولم تكن هذه الزيارة هي الأولى من نوعها، فقد سبقها في يونيو الماضي زيارة نائب وزيرة الخزانة الأمريكية والي أديمو إلى تركيا. في المقابل، كثف المسؤولون الأتراك من زياراتهم للعاصمة واشنطن، فبعد زيارة وفد من وزارة الدفاع التركية للولايات المتحدة في أغسطس الماضي، قام وزير الخزانة والمالية التركي نور الدين نباتي بزيارة رسمية إلى واشنطن في 11 أكتوبر الجاري.
3- تحييد موقف واشنطن تجاه الصراع في بحر إيجه: على الرغم من التحالف الاستراتيجي بين واشنطن وأثينا، والدعم الأمريكي للموقف اليوناني تجاه القضية القبرصية، إلا أن الولايات المتحدة حرصت في الفترة الأخيرة على تحييد مواقفها تجاه الصراع التركي اليوناني في بحر إيجه، حيث أكد السفير الأمريكي لدى تركيا “جيف فليك” -في بيان له- في 17 أكتوبر الجاري، على حيادية موقف بلاده تجاه النزاع في بحر إيجه. وأضاف “فليك”: “تعاوننا في مجال الأمن، مع حلفائنا في الناتو (تركيا واليونان)، لا يميل للانحياز لصالح أحد الشركاء أو زعزعة التوازن”. وتابع أن “الهدف الأساسي الذي نتشاركه مع حلفائنا في الناتو، تركيا واليونان، هو ضمان السلام والأمن والاستقرار في المنطقة بأكملها”، مشيداً بدور تركيا “ولا سيما من خلال نقل الأمن الغذائي إلى مستوى أعلى، وتحسين الحوار بين أوكرانيا وروسيا”.
أهداف متنوعة
ثمة العديد من الأهداف التي تقف وراء توجه الولايات المتحدة لتعزيز سياسة التهدئة تجاه تركيا في المرحلة الحالية، وهو ما يمكن بيانه كالتالي:
1- محاصرة موسكو وتشديد الخناق عليها: تسعى إدارة بايدن إلى حشد الدعم الدولي والإقليمي لتضييق الخناق على الأصول الروسية في الخارج. وفي هذا السياق، فإن تركيا تمثل أولوية لاستراتيجية الولايات المتحدة لمحاصرة موسكو وتشديد العقوبات عليها، خاصة أن تركيا بالإضافة إلى إعلانها صراحة أنها لن تشارك في العقوبات الغربية المفروضة على موسكو بسبب الحرب الأوكرانية، وتعهدت بأنها ستعزز علاقاتها الاقتصادية معها في مختلف القطاعات؛ فإن ثمة مخاوف أمريكية من تحول تركيا إلى ملاذ آمن للروس، إذ برزت تركيا كواجهة لجذب الأثرياء الروس في الأشهر الأخيرة، وهو ما أحبط جهود الولايات المتحدة لمحاصرة المحاولات الروسية للقفز على العقوبات.
2- تحييد الدعم التركي للخصوم: لا ينفصل توجه واشنطن لترطيب العلاقة مع أنقرة عن سعيها لتحييد المواقف التركية الداعمة لخصوم الولايات المتحدة، وبخاصة إيران وفنزويلا، حيث دعت تركيا (في 21 أكتوبر الجاري) إلى رفع العقوبات عنهما لمواجهة ارتفاع أسعار الطاقة. وفي تصريحات له (في 21 أكتوبر الجاري)، قال وزير الخارجية التركي: “العالم كله بحاجة للنفط والغاز الطبيعي من فنزويلا.. ومن جهة أخرى هناك حظر على النفط الإيراني”. وأضاف: “إذا كنتم تريدون خفض الأسعار، ارفعوا هذه العقوبات وألغوا إجراءات الحظر عن هذين البلدين اللذين سيمدان الأسواق”. لذلك، فإن التحركات الأمريكية الأخيرة تجاه أنقرة، تهدف في قسم منها إلى قطع الطريق على التقارب التركي مع خصومها، وبخاصة طهران.
في المقابل، فإن واشنطن تسعى من وراء ستار إلى وقف التطور الحادث في العلاقات بين أنقرة والسعودية التي تتعرض لضغوط أمريكية غير مسبوقة بعد اتهامها بالوقوف إلى جانب روسيا في حربها على أوكرانيا، بعد قرار تحالف “أوبك+”، بقيادة الرياض وموسكو، خفض إنتاج النفط الخام. ويشار إلى أن تركيا قد أعلنت في 21 أكتوبر الجاري على لسان وزير خارجيتها، أنها لا يمكن أن تقبل التهديدات الأمريكية للسعودية، على خلفية قرار خفض إنتاج النفط من منظمة “أوبك+”، واعتبرت السلوك الأمريكي ضد الرياض “تنمراً ليس صائباً”.
3- التأثير على المقاربة التركية في عضوية الناتو: تسعى الولايات المتحدة إلى التحايل على القضايا الخلافية مع تركيا لتحقيق عدة أهداف رئيسية، أهمها ضمان استمرار تركيا كرأس حربة في الدفاع عن الناتو، ولا سيما بعد تصاعد التهديدات الروسية ضد دول الحلف، فضلاً عن الضغط على تركيا لإحداث تحول في موقفها بشأن قبول عضوية السويد وفنلندا داخل حلف الناتو، حيث لا تزال أنقرة تعارض انضمامهما على خلفية اتهامها للدولتين بدعم حزب العمال الكردستاني الذي تصنفه تركيا “إرهابياً”، فضلاً عن تقديمهما ملاذات آمنة لبعض عناصره المطلوبين قضائياً في تركيا.
4- تطوير العلاقات الاقتصادية المشتركة: يأتي التطور الأمريكي الحادث مع تركيا خلال المرحلة الحالية متسقاً مع رغبة واشنطن في تحويل تركيا إلى بديل اقتصادي للشركات الأمريكية التي غادرت روسيا بسبب الحرب الأوكرانية. وأبدت العديد من الشركات الأمريكية التي خرجت من السوق الروسية، اهتماماً لافتاً بالانتقال نحو السوق التركي، وكشف عن ذلك زيارة مساعد رئيس الغرفة التجارية الأمريكية “ميرون بريليانت” لتركيا في مارس الماضي بصحبة رجال أعمال أمريكيين لإجراء لقاءات ومباحثات مع المسؤولين الأتراك لبحث التسهيلات التي يمكن أن تمنحها تركيا للشركات الأمريكية التي بدأت الانتقال للسوق التركية. ويشار إلى أن الاستثمارات الأمريكية تمثل أولوية مهمة للاقتصاد التركي؛ فقد بلغ صافي تدفق رأس المال إلى تركيا 174 مليار دولار بنهاية عام 2021، منها 14 ملياراً لشركات أمريكية؛ أي ما يعادل 8.1% من إجمالي الاستثمارات، وهو ما يجعل الولايات المتحدة صاحبة ثاني أكبر استثمارات خارجية في تركيا بعد هولندا التي تحتل المرتبة الأولى بقرابة 27 مليار دولار.
ملفات شائكة
ختاماً، يمكن القول إن السيناريو الأمثل بالنسبة لواشنطن هو الحفاظ على التقارب مع تركيا خلال المرحلة الحالية، وذلك في سياق رغبة الولايات المتحدة في تعزيز الضغوط على خصومها، وبخاصة موسكو بسبب حربها في أوكرانيا، ناهيك عن رغبة واشنطن في بناء اصطفاف دولي ضد طهران والرياض، ولا سيما بعد قرار أوبك+ بخفض إنتاج النفط. ومن ثم فإن واشنطن تهدف إلى محاولة دفع تركيا إلى تبني مواقف دبلوماسية داعمة للموقف الأمريكي. غير أنه من الملحوظ أن هناك صعوبة في تحقيق ذلك، بالنظر إلى استمرار الملفات الشائكة بين أنقرة وواشنطن، وفي الصدارة منها استبعاد تركيا من برنامج إنتاج الطائرة F35، فضلاً عن معارضة التحركات التركية في شمال سوريا وشرق المتوسط.