كلما ذُكِرت تطورات الأوضاع في ليبيا، يتم مُباشرة استدعاء الاتفاق السياسي بين الأطراف الليبية، المعروف اختصاراً باتفاق الصخيرات، الذي تم التوقيع عليه قبل سبع سنوات، بعد وساطة مغربية ساهمت في التوصل إليه. ولم تتوقف جهود الوساطة المغربية، بين الفرقاء الليبيين، بل استمرت طوال هذه السنوات، في استهداف طموح لإيجاد مخرج سياسي للأزمة المحتدمة في ليبيا، طوال ما يزيد على عقد من الزمان.
وقد كانت آخر جهود الوساطة المغربية هذه استضافة الاجتماع بين عقيلة صالح وخالد المشري، والذي أسفر عن اتفاق حول اثنين من المناصب السيادية السبعة في ليبيا. هذه الجهود المغربية المتواصلة تطرح تساؤلات حول الدوافع المغربية للقيام بمثل هكذا وساطة.
في مفاوضات شهدتها العاصمة المغربية الرباط، اتفق رئيسا مجلس النواب الليبي والمجلس الأعلى للدولة عقيلة صالح وخالد المشري، في 21 أكتوبر الجاري، على تنفيذ اتفاق “بوزنيقة” المتعلق بالمناصب السيادية، قبل نهاية العام الجاري. وفي بيان صدر عقب الاجتماع، تمت الإشارة إلى اتفاق كل من صالح والمشري على “تنفيذ مخرجات مسار بوزنيقة المتعلق بالمناصب السيادية في غضون الأسابيع المُقبلة، على ألا يتعدى نهاية السنة في كل الأحوال”. كما دعا بيان صالح والمشري إلى “استئناف الحوار من أجل القيام بما يلزم لإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية، وفق تشريعات واضحة، وذلك بالتوافق بين المجلسين”.
وكانت الأطراف المتنافسة في ليبيا قد اجتمعت من قبل، في بوزنيقة التي تبعد حوالي 40 كيلومتر جنوبي العاصمة الرباط، في سبتمبر 2020، للاتفاق على توزيع المناصب السيادية وكذلك وقف إطلاق النار.
صعوبات الاتفاق
رغم التفاؤل الحاصل بشأن الاتفاق الأخير، بين صالح والمشري، حول اثنين من سبعة مناصب سيادية في البلاد، وأنه سيتم عقد لقاءت في الفترة القادمة بالمغرب لمتابعة ما تم الاتفاق عليه، بحسب تصريحات خالد المشري في المؤتمر الصحفي المشترك الذي عقده مع عقيلة صالح، عقب انتهاء الاجتماع بينهما؛ إلا أن ثمة صعوبات تبدو في الأفق بخصوص تنفيذ هذا الاتفاق، يتمثل أبرزها في:
1- رفض حكومة الوحدة الوطنية للاتفاق: في أول ردود الفعل تجاه اتفاق صالح والمشري، أعلن رئيس حكومة الوحدة الوطنية، المنتهية الولاية، عبدالحميد الدبيبة، رفضه الاتفاق الذي يقضي بتوحيد السلطة التنفيذية وتوزيع المناصب السيادية في البلاد قبل حلول العام المُقبل. وقال في تدوينة نشرها على صفحته بموقع “تويتر”، في 21 أكتوبر الجاري، إنه “على رئيسي البرلمان ومجلس الدولة الإسراع باعتماد قاعدة دستورية تُنهي الإشكال بشأن الانتخابات”.
2- التباين في المواقف بين المشري والدبيبة: رداً على موقف الدبيبة، قال رئيس المجلس الأعلى للدولة خالد المشري، في تدوينة على موقع “تويتر”، أيضاً، إن “على رئيس حكومة الوحدة الوطنية الكف عن بيع الأوهام للشعب”؛ مُشيراً إلى أن الدبيبة “لا علاقة له بما هو ليس من اختصاصه ولا من صلاحياته”.
هذا التباين في المواقف، بين الدبيبة والمشري، وكلاهما من الغرب الليبي، يُلقي الضوء على الصعوبات التي قد تعترض الاتفاق أو الالتزام بين صالح والمشري، سواء تعلق الأمر بتغيير السلطة التنفيذية أو توزيع المناصب السيادية، في ظل رفض الأطراف السياسية والعسكرية في طرابلس لهذا الاتفاق؛ خصوصاً أن ملف “المناصب السيادية”، يأتي ضمن أكثر الملفات الخلافية بين القادة في ليبيا، بسبب التباين في وجهات النظر بشأن طرق وآليات ومعايير اختيار وتوزيع هذه المناصب، والأسماء المرشحة لها.
أهداف الوساطة
رغم هذه الصعوبات في تنفيذ الاتفاق الأخير بين صالح والمشري؛ تحاول المغرب الانخراط، بشكل لافت، في الأزمة الليبية، بل وممارسة دور محوري في الملف الليبي، وذلك عبر الوساطة بين الأطراف المختلفة على الساحة؛ حيث سبق للمغرب أن احتضنت، في أكثر من مرة، محادثات بين الفرقاء الليبيين تكللت بالتوصل إلى تفاهمات واتفاقات، على غرار اتفاقي الصخيرات وبوزنيقة. وتبدو عدة أهداف مغربية من هذه المحاولات، لعل أهمها ما يلي:
1- مواجهة المخاطر الأمنية للفوضى: مع أن المغرب ليست دولة مُتاخمة للحدود الليبية، إلا أنها تأثرت بعدم الاستقرار في ليبيا، ولاسيما في ما يخص التهديد الذي يفرضه الإرهاب. فمع انضمام متطرفين مغاربة إلى تنظيم “داعش” في ليبيا، والتخطيط لعمليات إرهابية في أوروبا انطلاقاً من هناك، تفرض عودتهم المتوقعة إلى المغرب مخاطر على الأمن القومي للبلاد.
علاوة على ذلك، وبسبب الانقسام السياسي والفراغ في السلطة في ليبيا، يُشكل احتمال شن المجموعات الإرهابية هجماتها من ليبيا، تهديداً حقيقياً لمنطقة شمال أفريقيا برمتها؛ مثلما شنت مجموعة متمردة عسكرية سياسية تشادية معركة، انطلاقاً من الجنوب الليبي، أدت إلى مقتل الرئيس التشادي إدريس ديبي في 20 أبريل 2021. هذا، إضافة إلى أن انهيار القطاع الأمني الليبي أتاح تهريب الأسلحة وتجارة المخدرات وغيرها من النشاطات الإجرامية.
2- الاستفادة الاقتصادية من اتفاقيات الطاقة: صحيح أن المغرب لم تربطها صلات اقتصادية قوية مع ليبيا، في ظل نظام العقيد معمر القذافي، لكنها يمكن أن تستفيد من اتفاقيات جديدة حول التجارة والطاقة. ويعمل صانعو القرار المغاربة للوصول إلى هذا الهدف؛ حيث أعلن وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة، في 11 يونيو 2021، عن نية المغرب تنظيم منتدى اقتصادي ثنائي. وفي 29 من الشهر ذاته، تطرق وزير النفط والغاز الليبي محمد عون إلى المحادثات التي كانت تُجرى مع المغرب، حول التعاون في مجال الطاقة المتجددة.
علاوة على المصالح المحلية الداخلية، تنخرط المغرب في الوساطة بين الأطراف الليبية، في استهداف واضح لتعزيز الموقع المغربي على الساحتين الإقليمية والدولية. فمنذ أن استضافت المغرب اللقاءات التي أفضت إلى اتفاق الصخيرات، تم تنظيم عدة محادثات حول مسألة المواقف المؤسساتية الأساسية؛ حيث يولي صانعو القرار المغاربة أهمية لتعزيز سمعة المغرب الدولية كـ”وسيط موثوق”، في الأزمة الليبية.
هذا، فضلاً عن أن زيادة انخراط المغرب في الوساطة بين الأطراف الليبية، يمكنها من إبقاء النفوذ الجزائري، المُنافس لها في المنطقة، تحت السيطرة. ومع توصل الجزائر، مؤخراً، إلى تفاهمات مع تونس ومصر وتركيا، حيال الأزمة في ليبيا، قد تخشى المغرب من أن نفوذها في ليبيا ربما يتضاءل؛ وهذا، بدوره، قد يُفاقم توتراتها مع الجزائر، ويدفعها أكثر إلى الانخراط في الوساطة بين الأطراف الليبية.
تحديان رئيسيان
عدد من العوامل ساعدت الدبلوماسية المغربية على النجاح النسبي في جهود الوساطة بين الأطراف الليبية المتنازعة، من بينها إدراك خصوصية المجتمع الليبي، لذلك لم تفرض الدبلوماسية المغربية أي خطة لحل الأزمة، بقدر ما شددت فعلاً -وليس قولاً- على أن مستقبل ليبيا ينبغي أن يصوغه الليبيون. أيضاً، فقد مكن الحياد المغربي الإيجابي هذا من السماح للمغرب بالدخول على خط الأزمة، رغم كثرة التدخلات الإقليمية والدولية في الملف الليبي.
ورغم ذلك، يبدو عدد من التحديات أمام الوساطة المغربية، لعل أهمها الاثنان التاليان:
1- إشكاليات استمرار التدخلات الإقليمية: يُعتبر أهم تحد أمام الوساطة المغربية، هو ذلك المتمثل في الدور الجزائري، الذي يُساهم في الحد من فرص تفعيل وتسريع مخططات الوسيط المغربي، كمحاولة للانفراد بهذه الملفات. ويبدو ذلك بوضوح، عبر تكرار الجزائر لمحاولاتها في الحد من الدور المغربي، مثلما حدث في عرقلة المحاولة المغربية في الوساطة بين الحكومة المالية والحركات الأزوادية من قبل، في عام 2014.
2- صعوبة تجاوز إرث القذافي: يبرز هذا التحدي عبر تعثر المسار الانتقالي، في صعوبة تجاوز الإرث المُعقد لمرحلة حكم القذافي، التي استمرت طوال 40 عاماً، وعمق الأزمة الليبية بين حكومتين ومجلسين تشريعيين، فضلاً عن الانقسامات الأخرى، وهو ما أدى إلى انزلاق البلاد في حرب أهلية، وأزمة سياسية معقدة تعمقها حالة الاستقطاب الدولي، وسط فوضى السلاح والانفلات الأمني وسيطرة المليشيات، وتهديد حقيقي بتقسيم البلاد إلى أقاليم ثلاثة: شرقاً، وغرباً، وجنوباً.
وسيط موثوق
في هذا السياق، يمكن القول إن محاولات حلحلة الأزمة الممتدة في ليبيا، ستبقى مسألة معقدة. رغم ذلك، سوف تستمر المغرب في جهودها الحثيثة للتوسط بين مختلف الأطراف الليبية؛ حيث ستحاول المحافظة على المؤسسات التي انبثقت عن اتفاق الصخيرات، وما تلاها من تفاهمات في بوزنيقة، وستُقيم على الأرجح لقاءات متكررة بين الأطراف المتنافسة على الساحة في ليبيا، في هذا الإطار.
ومن هنا، يبدو أن جهود الوساطة المغربية، وإن كانت ترتهن بحدود الظروف الجغراسياسية الإقليمية، وحسابات الاستقطاب الدولي؛ إلا أنها، في الوقت نفسه، سوف تستمر للحفاظ على صورة المغرب كـ”وسيط موثوق”، في الأزمة الليبية.