في ظل انشغال السلطات الانتقالية الحالية في السودان بتطورات الأزمة السياسية القائمة على تصاعد الصراع بين الأطراف السودانية على السلطة، ولا سيما بين المكونين المدني والعسكري؛ فقد شهدت بعض الولايات السودانية اندلاعاً لبعض الاشتباكات القبلية المتجددة، ومن المؤشرات الدالة على ذلك إعلان الجيش السوداني، في 15 أكتوبر 2022، مقتل 5 وإصابة 9 آخرين جراء ما وصفه الجيش بـ”احتكاكات” بين بعض المكونات القبلية على مدى يومين في مدينة “لقاوة” بولاية “غرب كردفان” الواقعة جنوب البلاد مما أسفر عن نزوح آلاف الأشخاص إلى القاعدة العسكرية التابعة للجيش هناك وسط مخاوف من اتساع نطاق الصراع مما يؤدي إلى وقوع المزيد من الضحايا، كما شهدت منطقة “ود الماحي” بولاية “النيل الأزرق” الواقعة جنوب شرق السودان، تجدداً للاشتباكات المسلحة بين قبيلتي “الهوسا” و”الهمج” أسفرت عن مقتل 4 أشخاص، وإحراق عدد من المنازل التابعة لأهالي القبيلتين.
إجراءات حكومية
ومع تجدد الاشتباكات القبلية بين القبائل القاطنة لولايتي غرب كردفان والنيل الأزرق، فقد سارعت حكومة تصريف الأعمال التي يرأسها الفريق “عبد الفتاح البرهان” قائد الجيش ورئيس مجلس السيادة الانتقالي، إلى اتخاذ بعض الإجراءات العاجلة في محاولة للسيطرة على هذه الاشتباكات، والحد من اتساع نطاقها الجغرافي، ومن ذلك ما يلي:
1- إرسال تعزيزات عسكرية لمناطق الاشتباكات: عقب اندلاع المواجهات بين قبيلتي النوبة والمسيرية بالولاية أرسلت السلطات قوة عسكرية من الجيش وقوات الدعم السريع وعناصر من الشرطة للفصل بين الأطراف المتنازعة وتأمين المرافق الحيوية، ومنع اتساع نطاق أعمال العنف الشغب في الولاية للحد من الخسائر البشرية والمادية.
2- الدعوة لإجراء حوار وطني: حيث دعا المسؤولون الحكوميون المكونات القبلية المتصارعة إلى حل المشكلات القائمة بينهم من خلال الحوار ونبذ العنف واللجوء إلى السلاح، ومن ذلك التصريحات التي أطلقها عضو مجلس السيادة الانتقالي “مالك عقار” رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان قطاع الشمال، والتي أكد فيها على ضرورة معالجة قضايا ولاية غرب كردفان في الإطار السلمي عبر الحوار البناء وتعزيز اللحمة الاجتماعية.
3- عقد لقاءات مع القبائل المتصارعة: إذ تعتمد السلطات الانتقالية السودانية على مقاربة خاصة في التعامل مع أية اشتباكات قبلية قد تندلع في أية ولاية، وترتكز هذه المقاربة على إرسال بعض المسؤولين سواء من العاصمة الخرطوم أو من الإدارة المحلية داخل الولاية التي تشهد هذه الاشتباكات. وفي غرب كردفان تم عقد لقاء بين “محمد نورين علين” عضو اللجنة العليا لمؤتمر “توحيد قبيلة المسيرية حول القضايا المصيرية” مع عدد من ممثلي قبيلتي “المسيرية” و”النوبة” للتأكيد على أهمية التعايش السلمي بين المكونات القبلية القاطنة ولاية غرب كردفان، وتم التأكيد أيضاً على مناقشة الإشكالية الخاصة بحصول الولاية على 40% من عائدات النفط المستخرج من الولاية وتخصيصها لمشروعات التنمية الاقتصادية هناك، وذلك وفقاً لما تمت مناقشته خلال اجتماع وفد قبيلة “المسيرية” مع “مالك عقار” بالقصر الجمهوري في 6 أكتوبر الماضي للمطالبة بحصول الولاية على حقوقها وفقاً لما نص عليه اتفاق جوبا النهائي للسلام الموقع في 30 أكتوبر 2020.
عوامل دافعة
يمكن تفسير تجدد الاشتباكات القبلية في ولايتي “غرب كردفان” و”النيل الأزرق” من خلال مجموعة من العوامل، هي:
1- الصراع على ملكية الحواكير (الأراضي): يعد السبب الرئيسي في تجدد الاشتباكات المسلحة بين القبائل العربية والأفريقية القاطنة في ولاية غرب كردفان هو الصراع الدائم على ملكية الأراضي (الحواكير)، والتي لم يتم حسمها بشكل جذري بسبب قلة الموارد الطبيعية، وخاصة المتعلقة بمناطق الرعي والحصول على مياه الشرب بين المزارعين والرعاة، وتحديداً مع بداية موسم الأمطار في شهر يوليو وحتى شهر سبتمبر من كل عام، واتهام كل طرف للآخر بتعديه على ملكية الطرف الآخر، وكان هذا هو السبب الرئيسي وراء اندلاع الاشتباكات الأخيرة بين قبيلتي المسيرية والنوبة، وكان أيضاً هو السبب وراء اندلاع اشتباكات مسلحة أكبر بين قبيلتي “المسيرية” و”الحمر” في نفس الولاية في شهر سبتمبر الماضي والتي أسفرت وقتها عن مقتل 5 أشخاص وإصابة 13 آخرين، وكان هو السبب أيضاً في اندلاع اشتباكات مماثلة في شهر يوليو عام 2021 بسبب الصراع على ملكية الأراضي الزراعية.
2- غياب مشروعات التنمية الاقتصادية للأطراف: تجددت الاشتباكات المسلحة أيضاً في ولاية النيل الأزرق بسبب صراع قبيلتي الهوسا والهمج على الموارد الطبيعية المحدودة، إن لم تكن النادرة، والخلاف حول ملكية الأراضي الزراعية، مما أدى إلى وقوع اشتباكات مسلحة بين أفراد القبيلتين، وهو السبب نفسه الذي اندلعت على إثره الاشتباكات المسلحة بين قبيلة الهوسا وقبائل الفونج خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة من يوليو إلى سبتبمر، وأسفرت عن مقتل 105 أشخاص وإصابة العشرات ونزوح 31 ألف شخص من منازلهم، والإقامة في مخيمات الإيواء أو في المدارس بالولاية، ويرجع الصراع على الموارد المحدودة بشكل رئيسي إلى غياب مشروعات التنمية الاقتصادية في ظل اتباع سياسة التهميش الاقتصادي والتنموي للأطراف، هذا إلى جانب عدم تنفيذ بنود اتفاق جوبا النهائي للسلام الذي يتضمن حلولاً لمشكلات الدعم المالي وتحقيق التنمية الاقتصادية في الولايات البعيدة عن العاصمة والتي تعاني من معدلات عالية من الفقر والبطالة وتردي الأوضاع المعيشية بشكل كبير كما في ولايات دارفور (شمال – غرب – جنوب) وكردفان (شمال – جنوب – غرب) والنيل الأزرق رغم ما يوجد بها من ثروات طبيعية مثل النفط والمعادن؛ إلا أن السلطات الانتقالية تستحوذ على عوائد هذه الثروات دون تخصيص نسبة محددة منها لتنمية هذه الولايات.
3- انتشار خطاب الكراهية بين القبائل: ففي ولاية غرب كردفان ينتشر خطاب الكراهية والتحريض بين القبائل وبعضها بعضاً، في ظل ادعاء كل قبيلة أنها تمثل السكان الأصليين للولاية، وأن باقي القبائل وافدة عليها، وبالتالي يدّعون عدم أحقيتهم في امتلاك الأراضي وآبار المياه، وهو ما يتناقض مع دعوات التعايش السلمي بين هذه القبائل، ويبقى سبباً رئيسياً لتجدد الصراعات التي تمتد إلى استخدام الأسلحة الخفيفة والثقيلة في بعض الأوقات، بما يزيد من مؤشرات عدم الاستقرار الأمني والمجتمعي داخل هذه الولايات. ففي ولاية غرب كردفان تدعي قبائل المسيرية أنها القبائل الأصلية التي لها الحق في امتلاك الأراضي ومصادر الرعي والمياه. وفي ولاية النيل الأزرق تقضي الأعراف المتوارثة هناك بأنه لا يحق لقبائل الهوسا التي جاءت بعد قبيلة “ألبيرتي” بأن تتملك الأراضي الزراعية هناك، وهو ما يدفعهم للاحتجاج على ذلك طوال الوقت، وبالتالي الدخول في مواجهات مسلحة مع القبائل الأخرى لإثبات أحقيتها في امتلاك الأراضي التي يقيمون عليها.
4- استمرار الأزمة السياسية: تمثل الأوضاع السياسية غير المستقرة في السودان عاملاً رئيسياً يدفع القبائل القاطنة في الولايات محل الصراعات، إلى عدم الالتزام باتفاقات الصلح التي يتم توقيعها تحت رعاية السلطات الانتقالية، ويرجع ذلك إلى عدم ثقة القبائل في السلطات الانتقالية الحالية في ظل انشغالها بالصراع على السلطة. فمنذ الانقلاب العسكري على السلطة الانتقالية، في 25 أكتوبر الماضي (قبل عام)، لم يتمكن المكون العسكري من تسوية الأزمة السياسية الراهنة، كما لم تتمكن القوى السياسية المدنية من التوصل إلى توافق سياسي فيما بينها لتقديم مشروع سياسي بديل يسهم في إخراج البلاد من أزماتها السياسية والاقتصادية الحالية.
هذا إلى جانب أن غياب العقوبات القانونية الرادعة وعدم تطبيقها على الأطراف المتورطة في إثارة هذه الصراعات المسلحة يدفع القبائل إلى تكرار الاشتباكات المسلحة، وعدم الالتزام باتفاقيات الصلح، بل ويرفعون من سقف مطالبهم التي تصل إلى المطالبة بترسيم الحدود بين القبائل القاطنة داخل كل ولاية، وذلك على غرار مطالبة قبائل المسيرية والحمر في غرب كردفان بترسيم الحدود بينهما، بما يؤكد ولاءهم وانتماءهم القبلي الغالب على الانتماء للدولة التي فقدت سيادتها داخل الولايات السودانية المختلفة.
5- تورط الحركات المسلحة في هذه الصراعات: حيث توجد اتهامات للحركة الشعبية – قطاع الشمال جناح “مالك عقار” بتحريضها المكونات القبلية على الدخول في مثل هذه الاشتباكات المسلحة، ويشير إلى ذلك اتهام بعض الزعماء في قبيلة “المسيرية” للحركة الشعبية وتحميلها مسؤولية الاقتتال الذي شهدته المنطقة متهمين إياها بخرق اتفاق إطلاق وقف النار المعلن من جانبهم، كما انتشرت في مواقع التواصل الاجتماعي داخل الولايات اتهامات للحركة بتورطها في اندلاع هذه الاشتباكات، وهو ما دفع “عقار” لنفي هذه الاتهامات مستنداً في ذلك إلى أن منطقة “لقاوة” التي وقعت بها الاشتباكات الأخيرة بولاية غرب كردفان لا تخضع لسيطرة حركته، كما أنها ملتزمة باتفاق وقف إطلاق النار من جانبها.
6- انتشار السلاح بين أفراد القبائل: مما لا شك فيه أن انتشار السلاح بين أفراد القبائل من بين الأسباب الهامة لتجدد الاشتباكات المسلحة بين هذه القبائل التي حصلت على هذه الأسلحة من خلال عدة طرق مختلفة، سواء من معسكرات الجيش السوداني خلال المواجهات بينه وبين الحركات المسلحة في عهد الرئيس المعزول “عمر البشير”، وأيضاً من خلال عصابات تهريب السلاح عبر الحدود المشتركة مع تشاد وليبيا إلى الداخل السوداني، بالإضافة إلى فشل إجراءات الحكومات المتعاقبة في جمع السلاح من أيدي أفراد القبائل، وهو ما يزيد من احتمالات استمرار عدم الاستقرار السياسي والأمني داخل هذه الولايات، ومن ثم تزايد احتمالات تجددها في المستقبل.
سياقات محفزة
خلاصة القول، تشير الاشتباكات القبلية المسلحة المتجددة في بعض الولايات السودانية إلى بقاء عوامل اندلاع هذه الاشتباكات، في ظل عدم قدرة السلطات الانتقالية الحالية على فرض هيبة الدولة وسيادتها من جهة، وعدم فاعلية الإجراءات الحكومية المتخذة لحل أسباب الصراعات المتجددة بشكل جذري من ناحية أخرى. ومع استمرار الأزمة السياسية الحالية في السودان وعدم حل المشكلات المشار إليها وفقاً لما نص عليه اتفاق السلام النهائي للسلام من ناحية ثالثة، فإنه من المرجح أن تتجدد هذه الاشتباكات، مع عدم استبعاد اتساع نطاقها في المرات القادمة، بما يزيد من عدم الاستقرار السياسي والأمني داخل البلاد.