مع تغير الإدارة الأمريكية، وبدء الرئيس الأمريكي “جو بايدن” حكمه الذي يشكل عودة أمريكية للدور العالمي وللقواعد العالمية التي تتبعها القوى الكبرى منذ 75 عامًا؛ فإن الشرق الأوسط يعد من أكثر المناطق الجغرافية المحمّلة بتوقعات واهتمام الإدارة الأمريكية الجديدة، وهي التوقعات التي تتشكل على هيئة مخاوف لدى بعض الدول وآمال لدى دول أخرى، في ظل كثرة الملفات العالقة بمنطقة الشرق الأوسط. بالإضافة إلى الجدل الذي ستوليه الإدارة الأمريكية لقضية الديمقراطية في سياستها الخارجية.
في هذا السياق، نظّمت كلية الشؤون الدولية والسياسة العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة في فبراير 2021، ندوة حول (العلاقات الأمريكية – العربية)، وهي تأتي ضمن سلسلة ندوات “حوار التحرير”، وذلك بمشاركة عميد الكلية “نبيل فهمي”، وزير خارجية مصر السابق، ورئيس الجامعة “فرانسيس ريتشاردوني”. بالإضافة إلى “شبلي تلحمي”، أستاذ كرسي أنور السادات للسلام والتنمية بجامعة ميريلاند، وباحث أعلى غير مقيم للسياسة الخارجية بمركز سياسات الشرق الأوسط، التابع لمعهد بروكنجز، و”ألان ستوجا”، ورئيس مؤسسة “تالبيرج” وشركة “زيمي” للاتصالات. وقد أدار الندوة “إبراهيم عوض”، أستاذ الشؤون الدولية، ومدير مركز الهجرة ودراسات اللاجئين بالجامعة.
جدلية الداخل والخارج
وفقًا لـ”آلان ستوجا”، فإن الإدارة الأمريكية الجديدة تأتي في وقت فارق على المستوى الداخلي في ظل أزمة الديمقراطية الأمريكية، وتداعيات وباء (كوفيد-19). إلا أن خبرة فريق السياسة الخارجية الأمريكي الجديد ستظل أحد العوامل المهمة التي ستدعم وتيسر التفاعلات الخارجية الأمريكية وترشّدها. وسينطلق هذا الفريق من التراجع عن سياسات “ترامب”، والعودة إلى نهج “أوباما” في بعض القضايا، مثل العودة إلى البرنامج النووي الإيراني واتفاق باريس للمناخ، وكذلك قضايا حقوق الإنسان. كما أشار “شبلي تلحمي” إلى معاناة الولايات المتحدة من انقسام غير مسبوق في التاريخ الأمريكي الحديث.
ورغم ذلك فإن “فرانسيس ريتشاردوني” يجادل بأن الاهتمام بالقضايا الداخلية لن يمنع الاهتمام بالشؤون الدولية، خاصة شؤون منطقة الشرق الأوسط التي تؤثر على الأوضاع الداخلية في الولايات المتحدة وأوروبا. كما ستهتم الولايات المتحدة خارجيًا بقضايا تتعلق بسيادة القانون وحرية التجارة ومكافحة الأوبئة.
الشرق الأوسط.. تراجع عام وأولويات ملحة
تساءل “نبيل فهمي” عن الرغبة الأمريكية في الانخراط في شؤون الشرق الأوسط، فرغم الاهتمام الأمريكي بالمنطقة؛ إلا أنه كان اهتمامًا منصبًّا على الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، متجاهلًا الصراعات الأخرى في سوريا واليمن وليبيا. وهو ما يطرح تساؤلًا حول مدى وجود رغبة لدى إدارة “جو بايدن” في الانخراط في هذه الأزمات من عدمه، بنفس قدر الرغبة الواضحة في الاشتباك مع الملف الإيراني.
فيما رأى “آلان ستوجا” أن الولايات المتحدة لم تعد تتبع استراتيجية متكاملة في تعاملها مع الشرق الأوسط، إنما فقط تتفاعل مع المنطقة عبر تكتيكات مرحلية؛ وهو أمر لن يتغير في المدى القريب، فمن غير المرجح بلورة سياسة خارجية أمريكية متكاملة تجاه المنطقة.
وأشار “فرانسيس ريتشاردوني” إلى تراجع أهمية الشرق الأوسط في الاستراتيجية الأمريكية منذ نهاية الحرب البادرة، حيث تراجعت أهمية النفط، كما عُدَّ الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي أمرًا غير مُلحّ. ورغم أن الشرق الأوسط بشكل عام لن يحظى بأولوية؛ إلا أن رئيس الجامعة الأمريكية في القاهرة حدد ثلاثة ملفات ستكون لها الأولوية على أجندة الرئيس الأمريكي “جو بايدن” فيما يتعلق بالشرق الأوسط، وهي: الملف اليمني، حيث من المرجّح أن يحظى الصراع في اليمن بأولوية لدى إدارة “بايدن” عبر دعم واسع لوقف الحرب، والسعي للحل السياسي للأزمة.
ومن جهة ثانية، يمثل الملف الإيراني أولوية استراتيجية عاجلة لدى القيادة الأمريكية الجديدة، حيث سيشهد محاولات للتهدئة بعدما كان مدفوعًا نحو القوة في عهد “دونالد ترامب”. وفيما لا تلوح في الأفق فرص عقد مفاوضات كبرى، فإن واشنطن ستعمل على خفض التوتر بالعودة إلى الاتفاق النووي الإيراني لأسباب شبيهة بتلك التي دفعت “أوباما” إلى إبرامه، تتعلق بالحد من القدرات النووية والعسكرية الإيرانية، وعدم الرغبة في الاندفاع إلى حرب تضر بالولايات المتحدة وبالمنطقة، حتى إذا كانت تلك رغبة بعض حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة.
ومن جهة ثالثة، يشكل الملف الفلسطيني ملفًّا هامًّا للإدارة الأمريكية، حيث ستتفاعل الإدارة الأمريكية الجديدة مع الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، وستعمل على تجديد الدعم والحوار مع الفلسطينيين، إلا أن “فرانسيس” لا يتفاءل بالمدى الذي يمكن أن تصل إليه الدبلوماسية الأمريكية في هذا الشأن.
السياسة الأمريكية بين إدارتين
حدد “فرانسيس ريتشاردوني” ثلاثة اختلافات رئيسية في التعامل الأمريكي مع قضايا الشرق الأوسط بين إدارتي “ترامب” و”بايدن”. فبينما ركز فريق “ترامب” بشكل غير مسبوق على القضايا التي تخدم إسرائيل مما انعكس على تعامل الولايات المتحدة في المنطقة، وانتقاء الملفات المتشابكة مع الاهتمامات الإسرائيلية فقط؛ فإن إسرائيل ستظل صديقة مهمة للولايات المتحدة في عهد “بايدن”. حيث سيتجلى الفارق في أن الاختيارات والاهتمامات والأولويات الأمريكية في المنطقة لن تكون قائمة على التفضيلات والاهتمامات الإسرائيلية كنقطة انطلاق.
وبينما اعتمدت الولايات المتحدة في عهد “دونالد ترامب” على تفاعل أحادي مع المنطقة بتجاهل الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، فإن إدارة “جو بايدن” ستتعامل بشكل تعاوني مع المنظمات الدولية والإقليمية. وفيما تشكل التعامل الأمريكي خلال السنوات الأربع الماضية في الشرق الأوسط وغيره، وفق شخصية “ترامب” ومنطق الصفقات الواضح؛ فإن الدبلوماسية الأمريكية لن تكون بمنطق المقايضات التجارية الفج في تعامل “بايدن” مع دول المنطقة.
ووفقًا لـ”شبلي تلحمي”، فإن “جو بايدن” سيعمل على العودة إلى القانون الدولي والقرارات الأممية كمرجعية فيما يخص الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، وستظل قضية المستوطنات إحدى النقاط مثار الجدل، بين اتخاذ موقف رافض كليًا وحاسم، وبين المعارضة المرنة التي تهدف إلى الحد من المستوطنات. كما أنه سيعمل على عودة المساعدات الاقتصادية للفلسطينيين، إلا أن المشكلة ستظل في مسألة نقل السفارة الأمريكية في إسرائيل إلى القدس، وهو القرار الذي لم يعد من الممكن تغييره. كما أن حل الدولتين تواجهه صعوبات جمة على أرض الواقع.
ويرى “نبيل فهمي” أن “بايدن” لن يغير أيًا من الالتزامات الرسمية تجاه إسرائيل، وأن أي تغيير كبير مثل حل الدولتين لن يتم بقرارات أمريكية أحادية، دون معطيات جديدة داخل المنطقة. فدومًا كان الحرب أو السلام يبدأ من المنطقة ثم تليه الأدوار الخارجية الداعمة والمكملة.
وأشار “شبلي” إلى أن قضية حقوق الإنسان ستحظى بأهمية لدى فريق “بايدن”، وموازنتها مع المصالح الاستراتيجية، حيث لا يمكن للديمقراطيين تجاهل قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان. وستتعامل الإدارة الجديدة مع تركيا ودول المنطقة بمنطق يجمع بين البراجماتية والمثالية، أي بالدمج بين المصلحة والقيم فستكون مسألة الحريات إحدى نقاط التدخل والاشتباك التي سيمارسها بايدن، والتي سيحدد سياسته الخارجية تجاه دول المنطقة في ضوئها. وفي ختام الندوة، لخص “إبراهيم عوض” الفرضية التي دار حولها النقاش بأن لدى واشنطن في تلك اللحظة أولويات داخلية أكثر من الخارجية، وحتى في الأولويات الخارجية فإن الشرق الأوسط ليس على القمة. ورغم ذلك فإن هناك بعض القضايا الشرق أوسطية التي ستفرض نفسها ولا يمكن لإدارة “بايدن” تجاهلها.