في إطار الاستعدادات الحالية لتنفيذ البند الأخير في خريطة طريق الإصلاحات السياسية والدستورية التي أعلنها الرئيس “قيس سعيد” في 13 ديسمبر الماضي، وهي إجراء الانتخابات البرلمانية في 17 ديسمبر القادم، أصدر الرئيس “قيس سعيد” في 15 سبتمبر 2022 المرسوم الرئاسي (عدد 55 لعام 2022) بتعديل القانون الأساسي عدد 16 لسنة 2014 المتعلّق بالانتخابات والاستفتاء، ودعوة الناخبين لانتخاب أعضاء مجلس نواب الشعب، وفي اليوم التالي لإصدار هذا المرسوم أعلنت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات البرلمانية أنها بصدد دراسة مشروع القانون الانتخابي الجديد.
ملامح القانون
عقب إصدار المرسوم الرئاسي الخاص بتنقيح القانون الانتخابي عبر صياغة مشروع قانون انتخابي جديد، برزت أهم ملامح القانون الجديد والتي أثارت جدلاً في الأوساط السياسية التونسية، ومن أهمها ما يلي:
1- تطبيق الانتخاب الفردي: ينص القانون الانتخابي الجديد على الانتخاب بصفة فردية وليس وفقاً لنظام القوائم الحزبية الذي كان معمولاً به في الانتخابات البرلمانية الأخيرة لعام 2019، وهو ما يعني أهمية حصول المرشح على 50%+1 ليتمكن من الفوز بمقعد في البرلمان الجديد، وإذا لم يحصل على هذه النسبة يدخل في مرحلة “إعادة” للانتخاب في دورة ثانية، وذلك لاختيار أعضاء البرلمان الجديد البالغ عددهم 161 عضواً، حيث تم تخفيض عدد أعضاء البرلمان بعدما كان 217 عضواً وفقاً للقانون الانتخابي السابق، كما ينصّ القانون الجديد أيضاً على تقسيم الدوائر الانتخابية إلى 151 دائرة في الداخل باعتماد عدد المعتمديات مع دمج بعضها بحسب عدد السكان، و10 دوائر في الخارج، بعدما كان العدد سابقاً في حدود 33 دائرة انتخابية من بينها ست دوائر انتخابية في الخارج.
2- اشتراط نزاهة المرشحين: حيث ينصّ القانون الانتخابي الجديد على حصول المرشح على تزكية “توقيع” 400 فرد (200 من الرجال و200 من النساء) على ألا يقل عدد المزكين من الشباب دون سن الـ35 عن 25%، كما لا يجوز للناخب أن يزكي أكثر من مرشح واحد، وذلك كشرط رئيسي للترشح لعضوية مجلس النواب، كما اشترط المشروع إلزامية بطاقة السوابق العدلية (عدم وجود سوابق قضائية أو التورط في قضايا فساد سياسي أو إداري أو مالي، تقديم الإقرار الضريبي، إبراء الذمة البلدي منع الترشح على مزدوجي الجنسية) للترشح لعضوية مجلس النواب، ويحمل ذلك استجابة لمطالب المواطنين ومنظمات المجتمع المدني بشأن أهمية وصول شخصيات تتسم بالنزاهة عبر تقديم سجلٍّ قضائي خالٍ من شبهات الفساد.
3- إجراء الانتخابات في مواعيد مختلفة: إذ يُلاحظ عدم وجود تزامن بين الانتخابات التشريعية وانتخابات المجالس الجهوية التي ستكون فيما بعد مجلس الأقاليم والجهات، نظراً لوجود صعوبات لوجستية وقانونية عدة، كما لا يجوز -وفق المرسوم- الترشح في الوقت نفسه للانتخابات التشريعية والرئاسية والمحلية والبلدية في صورة تزامنها.
4- التصويت في دورة واحدة: تضمن المرسوم أيضاً فصلاً جديداً هو الفصل 107، ويخصّ التصويت في الانتخابات التشريعية على الأفراد في دورة واحدة أو دورتين، وذلك في دوائر انتخابية ذات مقعد واحد. وكان التصويت في السابق يتم على القائمات مع اعتماد أكبر البقايا. وتم اعتماد ذلك النظام منذ انتخابات المجلس الوطني التأسيسي سنة 2011 وتمت المحافظة عليه إلى اليوم.
5- حظر فئات معينة من الترشح: ينص القانون الانتخابي الجديد على حظر الترشح على فئات معينة من أفراد المجتمع التونسي، وتشمل: رؤساء البعثات والمراكز الدبلوماسية والقنصلية، والقضاة وأئمة المساجد وأعضاء الحكومة، ويمكن لعُشر الناخبين سحب الثقة من النائب.
دلالات هامة
تحمل الملامح الأساسية للقانون الانتخابي الجديد الذي سيتم اعتماده كقاعدة قانونية يتم إجراء الانتخابات البرلمانية القادمة وفقاً لها، مجموعة من الدلالات السياسية الهامة، من أبرزها ما يلي:
1- تنفيذ مخرجات الاستشارة الإلكترونية: جاء إصدار القانون الانتخابي الجديد تنفيذاً لمخرجات الاستشارة الإلكترونية التي أوصت بتغيير القانون الانتخابي القديم، ففيما يتعلق بنظام الاقتراع المفضل اختار 70.7% من المشاركين نظام الاقتراع على الأفراد، في حين فضل 21.8 بالمائة نظام الاقتراع على القوائم، كما أعرب 92.9% من المشاركين فيها رفع الحصانة عن النائب الذي لم يعد يتمتع بثقة الأغلبية قبل انتهاء الفترة النيابية.
2- تقليص دور الأحزاب السياسية: يعكس إقرار القانون الانتخابي الجديد إجراء الانتخابات على الأفراد وليس القوائم الحزبية، رغبة رئيس الدولة “قيس سعيد” في تقليص دور الأحزاب السياسية المتصدرة للمشهد السياسي الراهن والقادم في البلاد، وذلك بعدما أعلن في أكثر من مناسبة أن هذه الأحزاب هي المسؤولة عن تدهور واضطراب الحياة السياسية التونسية، وأدت إلى قيامه بإعلان الإجراءات الاستثنائية في 25 يوليو 2021، وطوال العام الماضي أصرّ الرئيس “سعيد” على تهميش دور الأحزاب السياسية، وعدم الاستجابة لمطالبهم بإشراكهم في الحوار الوطني الخاص بإجراء الإصلاحات السياسية والدستورية في البلاد، وهو ما انعكس في انتقاد الأمين العام للحزب الجمهوري “عصام الشابي” صياغة الرئيس “سعيد” للقانون الانتخابي بمفرده بغرض إضعاف الأحزاب، معتبراً أن كل السلطات تتمحور حول شخص واحد، وأن الانتخابات ستكون على قياس رئيس الجمهورية، ولن تعكس التعددية السائدة اليوم في المشهد السياسي. وللرد على اتهامات المعارضة بإقصاء الأحزاب السياسية، أكد الرئيس “سعيد” على أنه لا وجود لأي إقصاء لأي جهة سياسية، والمشاركة مفتوحة للجميع شرط النزاهة وخلو السوابق العدلية للمرشحين.
3- مقاطعة المعارضة السياسية: فور الإعلان عن القانون الانتخابي الجديد، سارعت بعض الأحزاب السياسية المعارضة، وعلى رأسها حركة النهضة، ومجموعة من الأحزاب اليسارية مثل التيار الديمقراطي والجمهوري والعمال، وجبهة الخلاص الوطني، للإعلان عن مقاطعتها أو عدم مشاركتها في الانتخابات البرلمانية القادمة، واستندوا في ذلك إلى المبررات التالية:
4- تشكل برلمان غير مستقر: ترى الأحزاب والقوى السياسية المعارضة أن اعتماد نظام الانتخاب الفردي سوف يؤدي إلى إيجاد برلمان مشتت وغير مستقر، فبعد أن كان الانتخاب وفقاً للقوائم الحزبية يتم على أساس البرنامج الذي تطرحه الأحزاب السياسية، أصبح الانتخاب للأفراد سواء كانوا يحملون برامج انتخابية من عدمها، وبالتالي سوف يخضع أعضاء البرلمان الجديد لتوجهات الناخبين، أي إن عضو البرلمان سوف يصبح ممثلاً للناخب وليس للبلاد، وهو ما سيؤثر على حرية عمل النواب داخل البرلمان.
5- عودة تأثير المال السياسي: حيث ينص القانون الجديد على ضرورة حصول المرشح على تزكيات/ ترشيح 400 مواطن، وهو ما يتطلب معرفة الناخبين للمرشحين بصفة شخصية، وهو ما سيفتح المجال أمام عودة ظاهرة “المال السياسي” التي سيلجأ إليها بعض المرشحين للحصول على توقيع/ تزكية الناخبين، خاصة وأنه لا يوجد تمويل عام مقابل التمويل الحر والخاص للحملات الانتخابية، إلا أن الرئيس “سعيد” رد على هذا الأمر بالإشارة إلى أن الانتخاب على أساس النظام الفردي سوف يسمح للنائب في البرلمان باستمداد وجوده من إرادة ناخبيه وليس وفقاً لتزكية الهيئة المركزية للحزب الذي ينتمي إليه كما كان في الماضي.
6- تقليص عدد المقاعد: ترى المعارضة أن نص القانون الانتخابي الجديد على إلغاء 56 مقعداً برلمانياً يتناقض مع الواقع الديموغرافي في البلاد، خاصة وأن النائب البرلماني الواحد كان يمثل نحو 60 ألف مواطن، ومع القانون الجديد أصبح يمثل الآن 75 ألف مواطن.
7- تهميش دور المرأة: كما ترى المعارضة أن نظام الانتخاب الفردي سوف يقلص دور المرأة في المنافسة في هذه الانتخابات، في ظل عدم قدرة النساء على المنافسة في ظل مجتمع ذكوري وخاصة في المناطق الداخلية، وهو ما سوف يترتب عليه تهميش وإقصاء لدور المرأة في الحياة السياسية.
8- غياب الاستقرار السياسي: ترى المعارضة أيضاً أن تخفيض أعداد مقاعد البرلمان من 217 عضواً إلى 161 فقط في القانون الانتخابي الجديد، ومطالبة المرشح بالحصول على تزكية 400 شخص، سوف يمثل عبئاً على المرشحين، الأمر الذي من شأنه إعادة ظاهرة النعرات القبلية، والعودة لدور العائلات الكبيرة وتدخلها في الحياة السياسية لصالح مرشحها، وهو ما سينعكس سلباً بصورة أو بأخرى على الاستقرار السياسي في البلاد بصفة عامة في مرحلة ما بعد الانتخابات البرلمانية القادمة.
9- عودة النظام السلطوي: في ضوء النقاط سالفة الذكر ترى المعارضة السياسية أنها سوف تعمل على إيجاد برلمان غير مستقر ومشتت، وبالتالي غياب كتل نيابية منسجمة وأيضاً غياب أغلبية منسجمة داخل البرلمان، كما أن الدستور الجديد ينص على أن دور البرلمان الجديد لا يشمل مراقبة عمل الرئيس أو الحكومة، فضلاً عن تولي الرئيس السلطة التنفيذية بمساعدة الحكومة، وهو ما يصب في اتجاه عودة نظام رئاسي سلطوي يقوم على حكم الفرد وفقاً لتوجهات الرئيس الحالي “قيس سعيد”.
10- إقصاء إخوان تونس: من شأن القانون الانتخابي الجديد الذي سيتم اعتماده قاعدة قانونية لإجراء الانتخابات البرلمانية القادمة وفقاً لها، أن يُسهم في تزايد حالة التراجع والانهيار السياسي الحاصل لجماعة الإخوان المسلمين والأحزاب السياسية الممثلة لها، وخاصة حركة النهضة وائتلاف الكرامة، وذلك استناداً إلى أن الانتخاب سيتم على الأفراد وليس على الأحزاب السياسية، وهو ما يعني انتهاء سطوة بعض هذه الأحزاب وخاصة الإسلامية منها، وكذلك النص على عدم ترشح أئمة المساجد وهو ما سوف يسهم في تضييق الخناق على توظيف الخطاب الديني في الحياة السياسية، والذي استغلته تلك الأحزاب خلال السنوات الماضية لجذب أصوات الناخبين.
تغير المنافسة
خلاصة القول، جاء الإعلان عن القانون الانتخابي الجديد ليثير جدلاً واسعاً في الأوساط السياسية التونسية، ولا سيما بين الأحزاب السياسية المعارضة التي ترى في هذا القانون إمعاناً في إقصائها وتهميشها من المشهد السياسي التونسي، وهو ما يرجح أن تواصل هذه القوى السياسية حملاتها للتأثير على نسبة المشاركة في الانتخابات البرلمانية القادمة، بما يزيد من حدة الانقسامات في المشهد السياسي القادم في البلاد، إلا أنه مع تراجع دور الأحزاب السياسية بصفة عامة في البلاد، فإنه من المتوقع أن تتغير قواعد المنافسة الانتخابية، ومن ثم تغيير خريطة المشهد السياسي في مرحلة ما بعد إجراء الانتخابات القادمة.