مع بدء تغيّر العلاقات التركية السورية، واتجاه أنقرة نحو إنتاج مقاربة جديدة تجاه الصراع السوري بفعل الضغوط الاقتصادية، واقتراب العملية الانتخابية المقرر لها منتصف العام المقبل، فضلاً عن انفتاح القوى الدولية والإقليمية على النظام السوري؛ تجد تركيا نفسها بحاجة إلى بناء علاقة مغايرة مع الائتلاف الوطني السوري. وكشفت تقارير روسية وإيرانية عن تحول تركي محتمل بشأن الاستمرار في دعم الائتلاف. صحيح أن تركيا قد تتجه إلى تقليص دعمها للائتلاف، إلا أن العلاقة قد لا تصل إلى حد القطيعة أو ترحيل الائتلاف، إذ إن ثمة العديد من القضايا الخلافية التي تمثل تحدياً أمام ترطيب العلاقة بين أنقرة ودمشق، ناهيك عن حاجة أنقرة إلى الاستمرار في توظيف المعارضة السورية لتعزيز وجودها على الأراضي السورية.
أشارت تقارير روسية، في 13 سبتمبر الجاري، وقبلها تصريحات إيرانية في مطلع الشهر الجاري، إلى وجود توجهات تركية مغايرة بشأن العلاقة مع “الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية”. وبحسب التقارير والتصريحات، فقد طالبت الحكومة التركية “الائتلاف” بمغادرة البلاد إلى مكان آخر قبل حلول نهاية عام 2022. ونفى رئيس “الائتلاف” سلم المسلط، صحة حدوث تحول في العلاقة مع أنقرة، وأكد في بيان صادر عن “الائتلاف” في 14 سبتمبر الجاري “أن موقف تركيا ثابت من الثورة السورية ومن دعم مطالب الشعب السوري بتحقيق الحرية والكرامة والديمقراطية”، واعتبر أن مثل هذه التصريحات لا تعدو كونها محاولات مفضوحة من القوى الإقليمية والدولية الموالية للنظام السوري.
مؤشرات كاشفة
على الرغم من نفي “الائتلاف” حدوث تغيير في توجهات المسؤولين الأتراك حيال الائتلاف، إلا أن ثمة معطيات تكشف عن أن ثمة تحولات محتملة خلال الفترة المقبلة، خاصة مع بدء تهدئة الملفات الخلافية بين أنقرة ودمشق. ويشار إلى أن وكالة “سبوتنيك” نقلت، في 13 سبتمبر الجاري، عن مصادر حكومية روسية، تصريحات تشير إلى أن المخابرات التركية أبلغت “الائتلاف” بضرورة مغادرة البلاد، وأشارت إلى أن هذا قرار سياسي تم اتخاذه في تركيا مؤخراً على خلفية التقارب السوري التركي برعاية روسية. وأكد التقرير أن الرئيس أردوغان قرر إغلاق جميع مكاتب “الائتلاف”، ووقف تمويل أعضائه وفق جدول زمني محدد.
ولم تكن هذه التقارير هي الأولى من نوعها، ففي مطلع سبتمبر الجاري نشرت وكالة “تسنيم” الإيرانية تقارير تلمح إلى مطالبة تركيا “الائتلاف” بالخروج من البلاد، في إطار مساعيها لإعادة العلاقات مع دمشق. وأشارت الوكالة إلى أنه في ضوء ذلك طلبت أنقرة من المعارضة إيجاد بلد بديل، وإيقاف أنشطتها السياسية والإعلامية في تركيا. كما كشف في وقت سابق محضر اجتماع مسرب للائتلاف مع وفد المخابرات والخارجية التركية في 21 أغسطس الماضي، أن الجانب التركي بدا غير راضٍ تماماً عن الائتلاف، فضلاً عن أن التسريب أشار إلى رغبة تركيا في حوار المعارضة مع نظام الأسد من جهة، ومن جهة أخرى ألمح إلى نية أنقرة تخفيض رواتب أعضاء الائتلاف بسبب الأزمة الاقتصادية للبلاد.
بالتوازي مع ذلك، جاءت تصريحات وزير الخارجية التركي تشاويش أوغلو في مطلع أغسطس الماضي كاشفة عن عمق التوتر بين أنقرة و”الائتلاف”، حيث أكد أوغلو استعداد بلاده لدعم النظام السوري إذا قرر محاربة قوات سوريا الديمقراطية “قسد” التي تصنفها أنقرة إرهابية، وهو ما أثار قلق “الائتلاف” الذى بدا منقسماً على نفسه، بين من أراد إعلان موقف واضح من هذه التصريحات، وبين من قرر التريث لمحاولة فهم الموقف التركي الجديد ومداه، ويشار إلى أن هذا الانقسام كان محل جدل ساخن في اجتماع الهيئة السياسية العليا للائتلاف في 9 سبتمبر الجاري.
بيئة محفّزة
ثمة العديد من المحفزات التي تدفع تركيا نحو إعادة صياغة توجهاتها حيال “الائتلاف الوطني السوري”، وهو ما يمكن بيانه على النحو التالي:
1- التقارب مع النظام السوري: لا ينفصل التحول المحتمل للتوجهات التركية تجاه “الائتلاف السوري” عن رغبة أنقرة في تهدئة التوتر مع النظام السوري، وتوفير بيئة داعمة لحل القضايا الخلافية بين أنقرة ودمشق. وفي مؤشر على تقدم جهود روسية لإذابة الجليد بين أنقرة ودمشق، كشفت تقارير صحفية عن أن رئيس المخابرات التركية هاكان فيدان عقد عدة اجتماعات مع نظيره السوري في دمشق خلال الأسابيع الماضية، وآخرها في أغسطس الماضي. كما ذكرت صحيفة “حريت” التركية الموالية لحكومة العدالة والتنمية، في 16 سبتمبر الجاري، عن أن الرئيس رجب طيب أردوغان أبدى رغبة في لقاء نظيره السوري بشار الأسد لو أنه حضر قمة في أوزبكستان.
يشار إلى أن أردوغان في نهاية أغسطس الماضي، قد أكد في تعليقه على “التسوية” مع النظام السوري، على وجود اتصالات بين أنقرة وكل من طهران وموسكو في هذا الشأن، كما أكد أن هدف تركيا ليس الفوز على نظام الأسد، بل مكافحة الإرهاب في شمال سوريا وشرق الفرات.
2- التراجع عن دعم الائتلاف سياسياً: ظلت تركيا منذ يونيو 2011 تطالب بضرورة إسقاط نظام الأسد على خلفية الاحتجاجات التي شهدتها البلاد، واتجهت إلى استضافة خصوم النظام السوري ومعارضيه. كما اشترطت ضرورة توافق الأطراف السورية على دستور جديد يحمي حقوق شرائح الشعب السوري كافة، في إشارة إلى المعارضة الموالية لأنقرة. غير أن التحول الحادث في العلاقات بين أنقرة ودمشق مؤخراً، دفع الأولى إلى إعادة إنتاج مقاربة جديدة تجاه الصراع السوري، وظهر ذلك في تراجع تركيا عن شرطها السابق بضرورة توافق السوريين على دستور جديد، ومشاركة المعارضة السورية في أية حكومة مستقبلية، وهو ما يمثل مؤشراً على تراجع محتمل لأنقرة تجاه ضرورة مشاركة “الائتلاف” السوري الموالي لها في ترتيبات المشهد السياسي المستقبلي لسوريا، أو على الأقل تأجيل هذه القضية الخلافية في المرحلة الراهنة.
3- تزايد حدة الضغط الاقتصادي التركي: تعاني تركيا تراجعاً لافتاً في مؤشرات الاقتصاد، كشف عنها فقدان الليرة 44% من قيمتها، ناهيك عن ارتفاع معدلات التضخم التي تجاوزت نحو 80 في المائة. كما أعلن البنك المركزي التركي في يونيو الماضي عن استمرار تصاعد العجز في الحساب الجاري، حيث ارتفع العجز إلى 5.55 مليارات دولار بنهاية مارس 2022. وهنا، يمكن فهم احتمال توجه تركيا نحو رفع المخصصات المالية للائتلاف السوري، أو على الأقل تقليص فاتورة الدعم، إذ إن الوضع الاقتصادي بات يفرض على تركيا إعادة النظر في سياستها الخارجية، وبخاصة تقليص الانخراط العسكري في بعض دول الإقليم. ويشار إلى أن تسريبات أوردتها الصحافة التركية في أغسطس الماضي عن اتجاه تركيا إلى خفض رواتب ومخصصات أعضاء الائتلاف الوطني السوري.
4- مغازلة الرأي العام قبل العملية الانتخابية: تتزامن الانتخابات التركية المقرر لها منتصف العام المقبل مع تراجع في الرصيد الانتخابي للرئيس رجب طيب أردوغان، وحزب العدالة والتنمية، بسبب تصاعد حدة الأزمة الاقتصادية، ورفض قطاعات سياسية واسعة في الداخل التركي انخراط البلاد في صراعات عسكرية في دول الإقليم، باعتبار أن ذلك أرهق ميزانية البلاد، وأدخلها في سلسلة طويلة من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية. ويشار إلى أن المعارضة التركية سعت إلى الاستفادة من الارتدادات السلبية لدخول حزب العدالة والتنمية في الأزمة السورية، والإصرار على استضافة الملايين من اللاجئين السوريين. في هذا السياق، فإن حكومة العدالة والتنمية، ومع اقتراب العملية الانتخابية، قد تسعى إلى تخفيف ارتباطاتها مع القوى السورية المعارضة المقيمة على الأراضي التركية، وبخاصة الائتلاف الوطني، خاصة أن المعارضة التركية نجحت في استثمار الضغوط الاقتصادية والمشكلات الاجتماعية التي وصلت إلى ذروتها في البلاد بسبب اللاجئين السوريين، لتعزيز نفوذها على حساب الحزب الحاكم.
قضايا عالقة
ختاماً، يمكن القول إن التقارير التي أشارت إلى تحولات محتملة في سلوك النظام التركي تجاه “الائتلاف السوري”، تنسجم مع التوجهات التركية الجديدة بشأن إصلاح العلاقة مع محيطها الإقليمي، وفي الصدارة منها حل الملفات العالقة مع النظام السوري. لكن من غير الوارد أن يتم ترحيل أعضاء “الائتلاف” في المرحلة الحالية من الأراضي التركية أو حتى تسخين العلاقة معه، أو وصولها إلى حد القطيعة، إذ إن تصاعد الحديث عن تقارب تركي سوري، لا يعني حل القضايا الشائكة، فلا تزال أنقرة تصر على تعديل اتفاقية أضنة، وبقاء قواتها في الشمال السوري، بينما تطالب دمشق بضرورة إنهاء ما تسميه الاحتلال التركي للأراضي السورية قبل تطبيع العلاقات.