تشهد الصومال، خلال شهر سبتمبر الجاري، تحولاً لافتاً تمثل في تصاعد دور القبائل في مواجهة النشاط العملياتي لحركة “الشباب”، بعد مشاركة مليشيا قبلية مسلحة لقوات الجيش في عمليات ضد عناصر الحركة في إقليم هيران بولاية هيرشبيلي. ويأتي التصعيد الأخير من القبائل بعدما باتت الحركة تمثل تهديداً مباشراً لها عقب سلسلة استهداف لوجهاء القبائل بزعم تعاونهم مع الحكومة الفيدرالية، فضلاً عن مساعي تأمين المناطق المحررة من قبضة “الشباب”.
يتصاعد دور القبائل في المشهد الصومالي خلال الفترة الحالية، من خلال السماح بتشكيل مليشيات موالية للحكومة المركزية، في إطار حشد كافة أشكال الدعم للجيش والقوات الأمنية، في عمليات مكافحة الإرهاب لمواجهة النفوذ المتزايد لحركة “الشباب” الإرهابية.
ورغم أن دعم القبائل لجهود الحكومة المركزية في تحجيم حركة “الشباب”، بدأ قبل أشهر؛ إلا أن التحول اللافت هو مشاركة مليشيا مسلحة “قبلية” في مواجهات عنيفة ضد عناصر الحركة في إقليم هيران بولاية هيرشبيلي وسط البلاد، أسفرت عن مقتل العشرات من عناصر الحركة، بعد استهداف الحركة ثلاثة وجهاء من القبائل في إقليم هيران بلغم أرضي في 16 سبتمبر الجاري. وتأتي المواجهات بين مليشيات مسلحة موالية للحكومة الصومالية، وحركة “الشباب”، في سياق ما وصفته وسائل إعلام محلية بـ”انتفاضة القبائل”، للقضاء على التهديدات المرتبطة بـ”الشباب”.
سياقات حاكمة
يمكن النظر إلى التصعيد الأخير من قبل مليشيا “قبلية” موالية للحكومة ضد حركة “الشباب”، في إطار الرد المباشر على استهداف الحركة لقافلة مساعدات إنسانية، مطلع سبتمبر الجاري، في ولاية هيرشبيلي، على نحو أسفر عن مقتل مدنيين وتدمير الشاحنات التي كانت تحمل المساعدات. وبشكل عام، فإن الوضع الميداني في وسط الصومال كان يُرجح حشد القبائل ومليشيات مسلحة لمواجهة حركة “الشباب”، في ضوء ما يلي:
1- صدام تاريخي بين “الشباب” والقبائل: تُعد القبائل أحد الأطراف الفاعلة في المشهد الصومالي، بفعل التركيبة القبلية، وتضطلع بأدوار على المستوى السياسي في مختلف الولايات، وتنظر بعض القبائل إلى حركة “الشباب” كأحد أبرز مصادر التهديد للنظام القبلي، خاصة أن الجذور التاريخية للحركة منذ تأسيس “اتحاد المحاكم الإسلامية” كانت قائمة على عدد من أبناء القبائل، وتقوم بالأساس على الصدام مع النظام القبلي في الصومال، إذ كان “اتحاد المحاكم” يرى ضرورة سيادة النظام الإسلامي كبديل للنظام القبلي، من خلال مبايعة تشكيل مجتمع إسلامي بدلاً من مبايعة قادة القبائل. وكان لتلك الرؤية دور في مواجهات بين بعض القبائل و”اتحاد المحاكم” ولاحقاً حركة “الشباب”، منذ عقد التسعينيات من القرن المنصرم، وبدا أن ثمة علاقة طردية بين تصاعد مواجهة القبائل للحركة، وتزايد معدلات النشاط العملياتي على مدار ما يزيد على عقدين.
2- اتجاه الحركة للسيطرة الميدانية: خلال ما يزيد على عام ونصف العام، وتحديداً منذ مطلع عام 2021، بعد قرار الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب سحب القوات الأمريكية المشاركة في الحرب على حركة “الشباب”، يمكن ملاحظة النشاط العملياتي المتزايد للحركة، وكانت السمة الرئيسية في هذا النشاط هي التوسع الميداني في مناطق جنوب ووسط الصومال لاستعادة السيطرة على القرى التي كانت تحت سيطرة الحركة قبل التدخل الأمريكي وتحجيم نشاط “الشباب”. وتكشف بعض التقديرات المحلية عن سيطرة الحركة على خُمس الأراضي في الصومال، اعتماداً على نمط “التمرد الريفي” الذي يشير إلى التمدد والتوسع في القرى والمناطق النائية التابعة للأقاليم الرئيسية في الولايات.
3- إعلان الحكومة الفيدرالية “الحرب الشاملة”: منذ وصول الرئيس حسن شيخ محمود إلى الحكم، وهو يضع مواجهة حركة “الشباب” على رأس الأولويات، باعتبارها أبرز التحديات التي تواجه الصومال، خاصة مع النشاط المتزايد للحركة، وتنفيذ عمليات إرهابية في قلب العاصمة مقديشيو، كان أبرزها الهجوم على فندق “حياة” الذي يُعد مقراً لمسئولين حكوميين بارزين، الشهر الماضي، وسبقها عدة استهدافات لمقر البرلمان، والهجوم على منطقة تضم مكاتب دولية في مطار مقديشيو في شهر مارس الماضي. وأطلق الرئيس الصومالي ما وصفه بـ”الحرب الشاملة” على حركة “الشباب”، لتحرير المناطق التي تخضع لسيطرتها، إضافةً إلى تقليص القدرات التمويلية الكبيرة خلال الفترة المقبلة، مع اتخاذ عدد من الخطوات منها عودة القوات التي تلقّت تدريبات في إريتريا، إضافة إلى قرار أمريكي بعودة قوات “الكوماندوز” مجدداً إلى الصومال لدعم مواجهة الحركة في مايو الماضي. وهنا يمكن الإشارة إلى أنه خلال الأشهر القليلة الماضية، وتحديداً منذ شهر يونيو الماضي، لجأت قوات الجيش إلى مليشيات قبلية لدعم جهود مكافحة نشاط “الشباب”.
4- تصعيد ضد “الشباب” في ولاية هيرشبيلي: بموازاة التوسع الميداني لحركة “الشباب” في ولاية هيرشبيلي، عبر سلسلة هجمات وسط الصومال للسيطرة على عدد من القرى، تصاعدت شكاوى السكان من إقدام الحركة على تخريب الآبار والممتلكات وتنفيذ عمليات قتل ضد المدنيين، إضافة إلى استهداف مسئولين في الولاية، مثل محاولة استهداف وزير الصحة ووزيرة المرأة، من خلال هجوم انتحاري على فندق بمدينة جوهر في يوليو الماضي. وأمام النشاط العملياتي المتزايد للحركة، فإن مسئولي الولاية لجئوا إلى اتخاذ خطوات في هذا الإطار، منذ يوليو الماضي، بعد زيارة رئيس الولاية علي عبد الله حسين إلى العاصمة مقديشيو، ولقاء الرئيس ورئيس الحكومة، لتنسيق الجهود وإعلان الحرب على الحركة في إقليم هيران، وإطلاق عمليات في إقليم شبيلي الوسطى.
دلالات عديدة
في ضوء تصعيد مليشيات مسلحة قبلية موالية للحكومة في الصومال ضد حركة “الشباب”، يمكن الوقوف على الدلالات الرئيسية لهذا التحول، وذلك على النحو التالي:
1- تهديد مباشر لنفوذ ومصالح القبائل: تعكس التحركات الأخيرة من قبل مليشيات قبلية موالية للحكومة الصومالية، على خلفية النشاط العملياتي لحركة “الشباب” والاتجاه إلى السيطرة على بعض المناطق والقرى في جنوب ووسط البلاد، شعوراً متزايداً لدى القبائل بالتهديد المباشر للنظام القبلي السائد، إذ تسعى الحركة لاستبدال الوضع القائم منذ عقود بفرض سيطرتها، وهو إذا ما تحقق وتمكنت الحركة من السيطرة التامة على مناطق وسط الصومال، فسيمثل هيمنة للحركة على النظام القبلي، بغض النظر عن تفكك هذا النظام أم لا، ولكن على الأقل سيكون خاضعاً لها، وبالتالي فإن القبائل تستنفر جهودها جنباً إلى جنب مع القوات الصومالية لمواجهة الحركة. كما أن القبائل تواجه استهدافاً مباشراً من قبل الحركة لقيادة قبلية في مايو الماضي، تحت ذريعة المشاركة في الانتخابات ودعم الحكومة الفيدرالية، مما استدعى الرد باستهداف معسكر للحركة في مطلع يونيو الماضي، لتبدأ القبائل في عمليات حشد ضد “الشباب” وتنفيذ عمليات ضد معاقلها، ومواجهة تحركات عناصرها لاستهداف القرى وسط البلاد. وفي سياق المواجهات بين الطرفين، توعدت حركة “الشباب”، في شهر سبتمبر الجاري، القبائل التي تدعم الحكومة الفيدرالية، وجاء ذلك على لسان المتحدث باسم الحركة، محمود راغي، وفقاً لتقارير محلية.
2- محدودية قدرات الدولة في مواجهة الإرهاب: لم تكن تحركات القبائل بتكوين مليشيات مسلحةلمواجهة حركة “الشباب”، بمعزل عن التنسيق مع الحكومة الفيدرالية ومسئولي الولايات والأقاليم، بما يشير إلى محدودية قدرات الدولة، مقارنة بالتقدم الميداني للحركة، خاصة وأن النشاط العملياتي لا يتوقف على نطاق جغرافي مُحدد، وإنما يمتد على مستوى وسط وجنوب البلاد، وفي ضوء الاستجابة البطيئة وتفاقم التهديدات الأمنية، وتوالي اختراق الحركة للعاصمة مقديشيو، فإن اللجوء إلى القبائل لدعم جهود مكافحة الإرهاب يعكس الرغبة في حشد الدعم المحلي، واستغلال استهداف الحركة لقيادات قبلية وتوسع السيطرة الميدانية، في استمالة القبائل لمواجهة “الشباب”، وهو ما يتضح من خلال إشادة مجلس الوزراء الصومالي بدور القبائل في مواجهة الحركة، ودعم القوات المسلحة لما سمى بـ”الثورة” ضد “الشباب”.
3- محاولة تأمين المناطق المحررة من الحركة: بالنظر إلى نمط “التمرد الريفي” الذي تعتمد عليه حركة “الشباب”، من حيث مهاجمة القرى والمناطق النائية،وهو نمط يفرض صعوبات أمام عمليات مكافحة الإرهاب في ظل توسيع الحركة نطاق المواجهات؛ فإن زيادة اعتماد الجيش الصومالي والحكومة الفيدرالية على مليشيات قبلية مسلحة لمواجهة الحركة، يأتي في سياق الرغبة في تأمين المناطق المحررة من قبضة “الشباب”، لضمان عدم استعادة الحركة السيطرة على تلك المناطق مجدداً بعد طردها في ضوء العمليات العسكرية التي أطلقتها الحكومة، وهو ما يتضح من خلال التحركات التي تقوم بها الحكومة، إذ عقد وزير الداخلية أحمد معلم فقي، في 19 سبتمبر الجاري، اجتماعاً مع بعض وجهاء القبائل لمناقشة دورهم في دعم الاستقرار بالمناطق المحررة من قبضة “الشباب”.
4- احتواء التوترات مع الإدارات الإقليمية: يواجه الرئيس الصومالي والحكومة الجديدة ضغوطاً متزايدةفي ظل موجة الجفاف الشديدة التي تضرب البلاد، مع تصاعد التهديدات المرتبطة بنشاط حركة “الشباب”، وتعرض الحكومة لاختبار صعب بعد توالي اختراق العاصمة مقديشيو. وهنا، فإن السماح للقبائل بحمل السلاح والتعاون مع القوات المسلحة في مواجهة الحركة، يمثل محاولة لتخفيف حدة الضغوط الشعبية على الرئيس والحكومة الفيدرالية، في ظل تراجع القدرات على ضبط الأمن جنوب ووسط البلاد. ويمكن الإشارة في هذا الصدد إلى تصريحات وزير الداخلية الصومالي أحمد معلم فقي بشأن تأثر التعاون بين الحكومة الفيدرالية والإدارات الإقليمية على وقع نشاط حركة “الشباب” والجفاف، والتأكيد على رغبة الحكومة في المساعدة لتحرير مناطق الجنوب الغربي من قبضة الحركة.
5- موازنة تحالفات “الشباب” مع أطراف قبلية: لم تتوقف اتهامات وإشارات الحكومات المتعاقبة في الصومال بدعم أطراف قبلية لحركة “الشباب”، واستمالة وجذب الحركة لشباب القبائل لدعم التمرد المسلح الذي تقوده في البلاد. وهنا، فإن السماح للقبائل بلعب دور أكبر في مواجهة حركة “الشباب”، من خلال حمل السلاح ضد الحركة، والتنسيق معها في مواجهتها، قد يؤدي إلى موازنة التحالفات التي تعقدها الحركة مع أطراف قبلية، خاصة في ظل الحديث عن لعب أطراف قبلية دوراً وسيطاً كقنوات خلفية بين “الشباب” والحكومة، وتعاون بعض وجهاء القبائل مع الحركة في المناطق التي تخضع لسيطرتها، خاصةً أن الحكومة الصومالية أشارت إلى رغبة “الشباب” في إذكاء الصراعات بين القبائل من خلال أطراف تتلقى دعماً مالياً منها، ويبدو أن هذا جاء رداً على توعّد الحركة باستهداف الأطراف القبلية الداعمة للحكومة وتشارك في الحرب ضدها، في حين أكدت على عدم استهداف أبناء قبيلة بعينها وإنما فقط من يقرر التعاون مع الحكومة، وفقاً للمتحدث باسم “الشباب” عبد العزيز أبو مصعب.
تحجيم النشاط
وأخيراً، فإنه على الرغم من مزاعم حركة “الشباب” حيال فشل المحاولات السابقة لتوظيف القبائل وتسليحها ضدها، إلا أن مشاركة مليشيات قبلية في عمليات الجيش الصومالي ضد “الشباب” منذ يونيو الماضي، حقق تقدماً في استعادة السيطرة على عدة مناطق وقرى بوسط البلاد، ودعم العمليات العسكرية لتحجيم نشاط “الشباب”، وتحديداً على مستوى السيطرة الميدانية، وهو دور يمكن أن يكون فعالاً خلال الأشهر المقبلة. وقد يتوسع نطاق تسليح القبائل وينتقل إلى مناطق جنوب البلاد، ولكن هذا يتوقف على حدود القدرات القتالية للعناصر القبلية في مواجهة عناصر الحركة التي تتلقى تدريبات على التمرد المسلح، إضافة إلى استراتيجية المواجهة من قبل قوات الجيش. ومع ذلك، تتصاعد التخوفات من مشاركة بعض القبائل في مواجهة حركة “الشباب”، في ضوء غياب الإطار القانوني الحاكم، وما يتصل به من زيادة معدل انتشار السلاح في الصومال، وإمكانية توظيفه في خلافات قبلية – قبلية مستقبلاً، فضلاً عن إمكانية تكرار سيناريو المواجهات بين قوات الجيش ومليشيا “أهل السنة والجماعة” العام الماضي، والسيطرة على قرى وسط البلاد، بعد أن كانت متحالفة مع الحكومة في مواجهة “الشباب”.