كأن الولايات المتحدة «غايبة فيلة»، كما يقال، فهي ورغم كل هذه التقلبات المرعبة والخطيرة التي تحدث في بلاد الرافدين وبالطبع في هذه المنطقة كلها، فإنها لم تجد ما تقوله سوى «التحذير» من اتجاه الوضع السياسي في العراق إلى الهاوية، وذلك مع أنّ هذا البلد العظيم حقاً وفعلاً قد تجاوز هذه المرحلة منذ سنوات عديدة وأن عودته إلى ما كان عليه في عهد صدام حسين والعهود السابقة، بخيرها وشرها، يبدو أنها بالفعل قد باتت ليست صعبة فقط بل مستحيلة.
إنه لا شك في أنّ الدول العربية متباينة في هذا المجال، وأنّ هنالك دولاً خليجية في مقدمتها لا بل على رأسها المملكة العربية السعودية، ومع الاحترام والتقدير للدول «الشقيقة» الأخرى، قد تجاوزت المرحلة السابقة، مرحلة الارتباك السياسي والاقتصادي، وأنها قد باتت في مستوى الدول الأوروبية فعلاً وربما أكثر، وهذه مسألة أصبحت معروفة وتتحدث بها ليس دول أوروبا فقط لا بل وحتى الدول التي تعتبر طليعية في العالم كله.
ثم وإنه غير هذه الاستثناءات فإن الحالة العربية، كدول «معروفة» وكأنظمة متهاوية بالفعل، وإنها لا تسر الصديق ولا تغيظ «العدا»، وإنّ انتشالها من هذا المستنقع الذي قد غرقت فيه يحتاج إلى سنوات طويلة وإلى متغيرات أساسية ورئيسية فعلية وحقيقية جادة وكثيرة.
وحقيقة، وحيث إنّ هذه الحقيقة مرة جداً، وإنه عندما تنهار وعلى هذا النحو دول عربية كانت رئيسية وأساسية وفاعلة ليس في هذه المنطقة الشرق أوسطية فقط، لا بل في العالم كله وكما هو واقع بلاد الرافدين وواقع دول أخرى باتت أحوالها لا تسر الصديق ولا تغيظ «العدا»… بل إن ما وصلت إليه من كل هذا التمزق والتفتت يعني أنها لم تعد موجودة، وعليه فإن الخوف كل الخوف من أنه حتى الجامعة العربية ستصبح مجرد عنوان بعدد من الموظفين فقط، وهنا فإنني أسأل الله العلي القدير أن يحول دون هذا وأن يبقى في هذا المجال كل شيء على ما هو عليه.
والمعروف بل المؤكد أنّ الوضع العربي كان قد مر بمراحل تاريخية عظيمة كانت الأمة العربية خلالها رقماً رئيسياً في المعادلة الكونية كلها وأنّ «العالم العربي»!! قد كان ممتداً من أطراف الصين وحتى قلب أوروبا… وإسبانيا تشهد على هذا وتشهد عليه أيضاً تركيا… والشرق والغرب والشمال والجنوب!!
لقد كانت تلك المرحلة مرحلة نهوض حضاري عربي بكل معنى الكلمة، وكان العرب بالفعل رقماً فاعلاً بل ورئيسياً في الشرق وفي الغرب وكانت «جامعاتهم» في تلك المرحلة المتقدمة قد استقطبت كل طالبي العلم والتعليم في العالم كله وحقيقة وكما هو واقع الحال لاحقاً بالنسبة للدول الأوروبية التي قد باتت مهيمنة على العالم كله وبأسره.
وهنا فإنه لا يجوز لنا كعرب أن نبقى نتغنى بمرحلة تاريخية قد باتت بعيدة جداً وعلينا أن ندرك أن هذه الحالة التي نمر بها هي لحظة عابرة ومريضة، وهنا فأن تصبح إيران وغيرها لها كل هذه الهيمنة وكل هذا التمدد الاحتلالي في العالم العربي… ومثلها مثل إسرائيل: «العدو الصهيوني»… والبعض يقول ومثل تركيا… ومثل كل بعض الدول الأوروبية التي قد عادت للتمدد في العالم العربي… استعمارياً واقتصادياً وسياسياً… وأيضاً ثقافياً، وحيث إن أجيالنا الصاعدة قد تخلت بمعظمها عن اللغة العربية… وباتت «ترطن» باللغات الغربية… كالإنجليزية والفرنسية والإسبانية… وغيرها!! وإنّ هذا في حقيقة الأمر لا ينطبق على العرب وحدهم، فهناك شعوب قد خرجت نهائياً من جلودها، وإن بعض أبنائها قد باتوا يتعاطون مع تاريخهم ومع لغة جدودهم وآبائهم، كما يتعاطى «بعضنا» مع اللغة اللاتينية ومع لغات غريبة أخرى غير متداولة في غالبية سكان الكرة الأرضية!! ولذلك فإنه يمكن التأكيد على أن الفترات الزمنية الأخيرة قد شهدت عودة إلى العروبة والثقافة العربية والتاريخ العربي، وأنّ كل دولنا التي كانت مستعمَرة وملحقة بلغة المستعمرين وسواء أكانوا فرنسيين وبريطانيين وغيرهم، قد عادت «هرولة» إلى واقعها الحضاري المتوارث، وأنّ أجيالنا الصاعدة بغالبيتها قد باتت تتمسك بعروبتها… تاريخاً… وثقافة… وشعراً وكل شيء.
ويقيناً أن هذا لا يعني أبداً الانغلاق ثقافياً في الدائرة القومية وحدها، فالعالم قد أصبح بمثابة قرية كبيرة، وأصبح هناك بفعل الاتصالات والمواصلات والتداخلات الكونية تمازج حضاري كوني وأصبحت العودة إلى التراث القومي واللغة الوطنية واجباً ضرورياً للشعوب كلها وفي طليعتها الشعب العربي، وذلك حتى لا تضيع الهوية الوطنية والقومية.
والمعروف أن هذا الكون المترامي الأطراف قد بات بمثابة قرية صغيرة وأنه لم يعد مستغرباً أن يشاهد أوروبيون في بعض القرى العربية النائية، وأن العواصم والمدن وأيضاً القرى البريطانية والفرنسية والألمانية والإيطالية قد باتت تبدو وكأنها عربية… وأن العباءات و«الدشاديش» لم تعد غريبة على الشعوب الغربية وأيضاً ولا الشرقية التي كانت مغلقة على نفسها ومثلها مثل علب السردين.
ولذلك فإنه يمكن القول إنّ العالم قد أصبح قرية صغيرة واحدة وإنّ هذا التداخل قد تبعه تداخل بين الشعوب كلها وإنه لم يعد مستغرباً أنْ يقول عربي من قبيل التباهي و«الفشخرة»: باريس مربط خيلنا!!
لذلك فعليه في النهاية، ولا نهاية لهذا الأمر، ألمْ يكن هذا العراق بلاد الرافدين، وعراق العرب كلهم وعراق الخير والعطاء والشعر والشعراء والثقافة والمثقفين والقادة الذين كانوا برزوا على مدى حقب التاريخ العربي كله… وعراق السيف والرمح والقلم وليس فقط عراق النفط… فكيف أصبح عراق التدخل الإيراني السافر الذي قد تجاوز الحدود كلها وأصبح قراره في يد «الولي الفقيه» في طهران… وليس في العروبة وهارون الرشيد.
نقلا عن الشرق الأوسط