فى مقالات سابقة بـ«المصرى اليوم» تناولت بالتحليل منظومة العلوم والتكنولوچيا العربية خلال الحقبة الثانية من الألفية الثالثة، والأدوات الحاكمة لتنميتها وتطوير أدائها.
وحيث إن «الابتكار» يُمثل الهدف النهائى لإحداث النقلة النوعية المرغوبة فى المنظومة بالألفية الثالثة، وتحقيق دورها فى إحداث التحول المعرفى والرقمى، ودعم جهود التنمية المستدامة، يناقش المقالان الحالى والقادم معدلات أداء الابتكار والإبداع بالدول العربية. وسأبدأ بمناقشة ما توفره الدول العربية لتنمية قدرات الابتكار، ثم قياس ما أنجزته من مخرجات فى هذا المجال التنموى الفاعل فيما بعد.
وسيعتمد التحليل على تقسيم الدول العربية إلى ثلاث مجموعات ذات سمات اقتصادية واجتماعية مُتقاربة تتمثل فى البلدان العربية بشمال إفريقيا، ودول الخليج بالجزيرة العربية، ودول غرب آسيا الأُخرى.
وتُظهر نتائج الدليل العالمى للابتكار لعام (2021) أن دولة الإمارات العربية المتحدة تحتل المرتبة الأولى عربيًا، وتُمثل الدولة رقم (33) على المستوى العالمى، وبفارق متسع عن الدولة العربية التالية وهى المملكة العربية السعودية التى حققت الترتيب (66) عالميًا.
وبرغم الأداء الابتكارى المتوسط لدولة الإمارات، فإن ما حققتة يُعد إنجازًا عربيًا، خصوصًا عند الأخذ فى الاعتبار أنها كانت الأولى عربيًا فى الدليل العالمى للمعرفة أيضًا فى عام (2021). يلى المملكة العربية السعودية دولة قطر بترتيب عالمى يُمثل الدولة رقم (68).
وعندما تأتى كل من الكويت وسلطنة عُمان فى الترتيب الخامس والسادس عربيًا، (72 و76) دوليًا على التوالى، يتضح أن دول منطقة الخليج تتميز عن باقى الدول العربية فى جهود تنمية الابتكار بوجه عام.
وبتحليل أداء دولة الإمارات العربية، يتضح أن نقاط قوتها تتركز فى الآتى. أولًا: جودة منظومتها التعليمية (الدولة 15 عالميًا)، وحصولها على المرتبة الأولى عالميًا فى معدلات اجتذاب الطلاب الأجانب للدراسة بها. ثانيًا: المرتبة المتقدمة فى مجال توفير البنية المعلوماتية الداعمة للابتكار التى حصدت الدولة رقم (12) على المستوى العالمى. ثالثًا: اعتماد دولة الإمارات العربية على بنية تحتية متطورة من حيث معدلات إنتاج واستهلاك الكهرباء والبنية اللوجستية (الدولة رقم 7 عالميًا).
رابعًا: حققت دولة الإمارات معدلات مرتفعة فى حجم الإنفاق البحثى بالمؤسسات الإنتاجية (المرتبة 5) عالميًا، وعدد التحالفات الصناعية من أجل الابتكار (المرتبة 9) عالميًا، ونسبة قوة العمل البحثية بالوحدات الإنتاجية (المرتبة 2) عالميًا. بيد أن دولة الإمارات تعانى من القصور فى معدلات الإنفاق على التعليم قبل الجامعى كنسبة من الناتج المحلى الإجمالى، وارتفاع معدلات البطالة فى الإناث الحاصلات على تعليم عال، والانخفاض النسبى فى إنتاجية قوة العمل الوطنية.
من ناحية أُخرى، تحتل تونس المرتبة الأولى بين الدول العربية بشمال إفريقيا، والدولة رقم (71) عالميًا، يليها كل من المملكة المغربية (الدولة 77) ومصر (الدولة 94) ثم الجزائر فى المرتبة (102) عالميًا فى عام (2021).
وقد حققت تونس نتائج جيدة فى مجال التعليم قبل الجامعى، حيث احتلت المرتبة السابعة عالميًا فى معدلات الإنفاق على التعليم كنسبة من الناتج المحلى الإجمالى، والترتيب الأول عالميًا فيما يخص تمويل الدولة للطالب كنسبة من نصيب الفرد من الناتج القومى. ومن الملاحظ أيضًا أن تونس حققت أفضل النتائج (الترتيب الثانى دوليًا) فى نسبة خريجى العلوم والهندسة من إجمالى قوة العمل.
وتتميز تونس على المستوى الاقتصادى، بارتفاع حجم القروض الممنوحة للقطاع الخاص كنسبة من الناتج المحلى الإجمالى، وسهولة إجراءات بدء مشروعات الأعمال (الدولة 18). بيد أن تونس تعانى من تواضع الاستثمارات الخارجية فى مجال البحث والتطوير، والتقادم النسبى فى البنية التحتية بحكم نقص معدلات الاستثمار كنسبة من الناتج المحلى الإجمالى، وتراجع نسبة واردات قطاع الاتصالات والمعلومات فى مجمل التجارة الخارجية. وللحديث بقية.
رد وتوضيح
عندما يُعلق أستاذ جامعى مرموق مثل د. محمد رياض، فى مقاله بـ«المصرى اليوم» الخميس ٨ سبتمبر الراهن، على مقال سابق لى، يتعين الرد احتراما لمكانته. وسأركز هنا على ملاحظته الرئيسية عن العلوم الاجتماعية والإنسانية.
أولا: أتفق تماما مع ما ذُكر بأن العلوم الإنسانية والاجتماعية ضرورة ملزمة لأى مجتمع، بل أرى ضرورة التوسع فيما يتم بها من بحوث علمية ودراسات ميدانية، وأن تحتل المساحة التى تليق بها بين التخصصات الجامعية، سعيا إلى التكامل المعرفى والتنمية الثقافية المرغوبة.
ثانيا: المشكلة تكمن فى التوليفة المثلى للتخصصات بالجامعة بما يخدم التقدم العلمى والتنمية. فعندما يقترب نصيب الثلاث كليات الرئيسية فى مجال العلوم الاجتماعية والإنسانية (التجارة والآداب والحقوق) من جملة طلاب الجامعات المصرية من (60) فى المائة، وعندما يكون الطلب بأسواق العمل لا يتوافق مع حجم خريجيها، وعندما يظهر للجميع تكدس طلابها بالمحاضرات والفصول الدراسية فى الجامعات الحكومية بما يؤثر سلبا على جودة العملية التعليمية، وعندما تستمر سياسة الدفع بأعداد كبيرة من الطلاب فى كليات هذا التخصص دون تقييم حقيقى للمتطلبات، فإن الأمر يتطلب على الأقل مراجعة.
ثالثا: معظم الأدلة الدولية والإقليمية فى مجالات المعرفة والتعليم والبحث العلمى والابتكار تعتبر مؤشر «نسبة الخريجين فى مجالات العلوم والهندسة والتكنولوچيا» معيارا لتقييم الأداء. ومن ثم فإن ما طُرح فى مقالى بخصوص هذا المؤشر يمثل توجها عاما وحاكما بمعظم المؤشرات العالمية المُقارنة فى هذا المجال، وليس توجها خاصا بى.
رابعا: أعتقد أنه من الطبيعى فى العصر المعرفى الراهن، والثورات الصناعية الحديثة وما تتضمنه من تكنولوچيات ذكية وضرورة للتحول الرقمى، أن تزداد الحاجة إلى التخصصات العلمية والهندسية، ويتزايد الطلب فى نفس الوقت على إحداث تطوير فى العلوم الإنسانية والاجتماعية.
ثالثًا: يبدو أن هذه الظاهرة تتكرر فى العديد من الدول النامية وفى معظم الدول العربية، مما دعا معظم الأدلة الدولية والإقليمية فى مجالات المعرفة والتعليم والبحث العلمى والابتكار إلى اعتبار «نسبة الخريجين فى مجالات العلوم والهندسة والتكنولوچيا» معيارًا لتقييم الأداء. ومن ثم فإن ما طُرح فى مقالى بخصوص هذا المؤشر يمثل توجها عاما وحاكما لمعظم المؤشرات العالمية المُقارنة فى هذا المجال، وليس توجها خاصا بى فقط.
نقلا عن المصري اليوم