يبدو أن الأزمة الحالية في العراق سوف تفرض تداعيات مباشرة على توازنات القوى بين الأطراف السياسية المختلفة، فضلاً عمّا يُسمى بـ”الخطوط الحمراء” التي تتمثل سواء في العلاقة بين تلك الأطراف والمرجعية الدينية، أو بين المرجعيات الدينية في حد ذاتها، ولا سيما بين مرجعيتي قم والنجف، إلى جانب أنها سوف تحدد بدرجة كبيرة الموقع السياسي والديني لمقتدى الصدر خلال المرحلة القادمة.
أنهت دعوة الزعيم الشيعي مقتدى الصدر التي تمحورت حول عنوان “درء الفتنة”، حرب المليشيات التي اندلعت في العاصمة بغداد وبعض المحافظات العراقية، يومي 29 و30 أغسطس الجاري، مُخلِّفة عشرات القتلى ومئات الجرحى واستهدفت المنطقة الخضراء والقصر الرئاسي وبعض مقرات القوى المعارضة المنضوية تحت مظلة “الإطار التنسيقي”، والتي أطلق عليها الصدر “المليشيات الوقحة” رافضاً أن يكون أنصاره في الدائرة نفسها. كما أكد الصدر عقب زيارة إلى النجف اعتزال الحياة السياسية بشكل نهائي. وفور استجابة أنصار الصدر (مليشيا السلام، العشائر) لدعوته بالانسحاب وفض الاعتصام خلال ساعة واحدة من كلمته الموجزة، رحب رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي بدعوة الصدر التي وصفها بـ”أعلى مستويات الوطنية”، وبالتبعية انتشرت القوات المشتركة والقوات الخاصة في مواقع المعارك.
مسارات مستقبلية
يُلقي هذا السياق بظلاله على مسار الأوضاع المستقبلية في العراق، وهو ما يمكن تناوله على النحو التالي:
1- العودة إلى “الخطوط الحمراء”: فجّرت الأزمة-التي وصفها الصدر بالفتنة-دعوة للمرجع الشيعي العراقي كاظم الحائري المقيم في قم الإيرانية، وجّهها للصدريين بالامتثال للمرجعية الإيرانية “ولاية الفقيه”، وهي الدعوة التي رفضها الصدريون أتباع العتبة المقدسة في النجف، بشن هجوم ضارٍ على أنصار مرجعية “ولاية الفقيه” التي يمثلها أغلب ساسة “الإطار التنسيقي” وظهيرها المليشياوي (الكتائب الولائية الموالية لإيران). وتمثل هذه المعركة انتهاكاً لما يعرف سياسياً بـ”الخطوط الحمراء” المتمثلة في الاقتتال الشيعي–الشيعي، بالإضافة إلى الخلفية السياسية التي تعود إلى محصلة التدخل الإيراني-السياسي والديني-في العراق، على مدار سنوات ربما ترجع إلى العام 2005 حينما تسببت إيران في تصدع التيار الصدري باستقطاب العديد من الزعامات سياسياً ومذهبياً بمن فيهم أيضاً الحائري الذي كان من أتباع المرجع العراقي البارز محمد الصدر والد مقتدى.
نزعت دعوة الصدر فتيل اشتعال “حرب طائفية” في العراق في مهدها، رغم ما خلَّفته من دماء ودمار، لتعيد الوضع إلى “الخطوط الحمراء” مرة أخرى، بمنع الاقتتال الطائفي الشيعي–الشيعي. لكن لا يزال من المبكر القول إن الأزمة بوجهها الطائفي قد انتهت تماماً.
فمن الناحية الإجرائية، أغلقت طهران الحدود مع العراق، كما أوقفت الحركة الجوية مع بغداد، إلا أن مصدر “الفتنة” نفسها لم يتنهِ بعد، فلا تزال المليشيات “الولائية” لاعباً في المشهد السياسي العراقي، والأهم من ذلك هو رفض المبادرة الإيرانية التي مررت إلى بغداد عبر حزب الله اللبناني وفق ما كشفت عنه صحيفة “الشرق الأوسط” اللندنية، ومفادها سحب نوري المالكي زعيم ائتلاف “دولة القانون” الموالي لإيران وأحد أقطاب “الإطار التنسيقي” من المشهد مؤقتاً، إذ يعكس ذلك قراءة الزعيم الصدري للمبادرة على أنها سياسية بالأساس، وتهدف إلى إعادة تموضع الدور الإيراني في العراق عبر الاستدارة إلى حزب الله اللبناني كوسيط، وليس إسماعيل قاآني قائد “فيلق القدس” التابع للحرس الثوري الإيراني، كممثل لطهران، بينما يرى الصدر أن الأمور انتقلت من الدائرة السياسية إلى الدائرة المذهبية، مما يتعين على إيران أن تراجع الموقف من هذه الزاوية.
2- إعادة صياغة دور الصدر مجدداً: على الرغم من تأكيد الصدر على الانسحاب من المشهد السياسي، إلا أن العديد من المراقبين يرون أنه عزز موقعه عملياً كزعيم سياسي وديني في الوقت ذاته، حيث يصعب فض الاشتباك بين ما هو سياسي وما هو ديني في العراق، وهو ما يأتي في سياق ما يعرف بـ”مسئولية المرجعية” الدينية التي تدور حول القضايا الوطنية ذات البعدين السياسي والديني. فعلى سبيل المثال، قال الصدر في خطابه شديد اللهجة لأنصاره: “إن لم تخافوا على دينكم وعلى عقيدتكم خافوا على وطنكم”. وربما من المرجح ألّا يتدخل الصدر في تفاصيل المشهد السياسي كأزمات الحكومة والبرلمان، لكن سيظل على اتصال بهذا المشهد. لكن من زاوية أخرى، أشار الصدر إلى أن أحد أسباب الاقتتال هو عدم حل المليشيات، وهو ما يفرض عليه تقييم موقف “سرايا السلام” التابعة للتيار الصدري، والتي انخرطت في المشهد، لكن ربما تُغلِّف المواقف والقرارات السياسية في هذا السياق بما يعرف بقرار المرجعية.
3- تعزيز موقع المرجعية الدينية العراقية: من المتصور أن التوجه الرئيسي الذي سيتفرغ له الصدر في المرحلة التالية، هو أولوية المرجعية الدينية في العراق، كدرس مستفاد من مخرجات الاقتتال الشيعي–الشيعي، وهي خطوة ربما لا تتوقف على مرجعية النجف، إذ إن المسار الذي اتخذته مرجعية قم وما إذا كانت ستواصل العمل وفق السياسات التي تتبعها منذ سنوات تجاه العراق، أم ستغير هذا الاتجاه في المستقبل، سيؤثر بدوره على موقعها في المشهد التالي، وسيحدد خطوط العلاقة بين الطرفين. فقد بدأت المرجعية العراقية بحقن الدم، لكن لا يزال من غير المعروف هل ستتراجع إيران عن استراتيجية “عسكرة التشيع” في العراق أم لا.
ويرتبط ذلك بمتغير آخر، يتمثل في استعادة الدولة الوطنية التي استنزفها الصراع، سياسياً واقتصادياً، حيث يشكل إعلان الصدر-الذي تضمن توجيه الشكر للقوات الأمنية والحكومة-مبادرة نحو التركيز على دور الدولة، وقد تلقف الكاظمي هذه النقطة سريعاً بالدعوة إلى الحوار الوطني مرة أخرى، مع الوضع في الاعتبار أن الأخير سبق وقاد حواراً لمعظم الأطراف لم يحضره التيار الصدري، وبالتالي فهو يدعو لجلسة ثانية، لم تتضح بعد ملامح من سيشاركون فيها، إلا أنه من المتصور أن المعركة الطائفية وخطاب الصدر التالي لها سيلقي بظلاله عليها، لكن هناك إرهاصات أوّلية حول تلك الخطوة تتمثل في موقف عضوي “الإطار التنسيقي” هادي العامري وحيدر العبادي، اللذين أيدا موقف الصدر، بل وأشادا به، لكن نوري المالكي زعيم ائتلاف “دولة القانون” وقيس الخزعلي زعيم مليشيا “عصائب أهل الحق” لم يبادرا إلى إظهار موقفهما سريعاً، على الرغم من مشاركتهما في الحوار إلى جانب مكونات “الإطار التنسيقي” الأخرى، بما يعني أن “الإطار” سيواصل المسار نفسه، وهو عكس السيناريو المطلوب، أو المتوقع، بتفكيك “الإطار” على نحو سيحدد بالتبعية خريطة المسار التالي، التي ستبدأ من تحديد أجندة الجلسة المقبلة للحوار.
يضاف إلى ما سبق أيضاً، موقف القضاء العراقي من قضية حل البرلمان، فقد أعلنت المحكمة الاتحادية تعليق القضية حتى إشعار آخر، بسبب الظروف القاهرة التي حلت بالبلاد، وإن كانت قد عادت بعد ذلك لتعلن أن الحكم سيصدر في أول سبتمبر القادم. ومن المتصور أن موقف الصدر أيضاً والمسار السياسي القادم سيكون له تأثيره على هذه القضية في المستقبل القريب. وعلى الأرجح سيكون هناك سيناريوهان: أولهما، أن تعلن المحكمة موقفها بالحل أو عدمه. وثانيهما، أن يتحرك “الإطار التنسيقي” باتجاه حل البرلمان بشكل قانوني أيضاً، باعتباره صاحب الكتلة الأكبر في البرلمان بعد استقالة نواب الكتلة الصدرية، والتي قادت بدورها إلى المشهد الراهن، وبالتالي تحسب له خطوة مقابلة للخطوة التي اتخذها الصدر، على أن ترسم أجندة الحوار السياسي “الوطني” المسار التالي، وعلى الأرجح سيكون مساراً انتقالياً.
4- حدود غامضة للانتقال السياسي: دعت الحكومة العراقية إلى حوار وطني “سريع”، ويشير مراقبون محليون إلى أن هذا الحوار سيكون امتداداً للحوار السابق، وهو ما يعكس إشكالية ما بين الدوافع للحوار “السريع” كتكتيك لإدارة الأزمة الحالية، وما بين استراتيجية التأسيس لمرحلة ما بعد الأزمة، بمعنى التأسيس لخريطة انتقال سياسي جديدة، الأمر الذي ينسجم معه الموقف الكردي، الذي دعا إلى حوار على أجندة مختلفة. لكن إلى الآن لم تتضح بعد مواقف القوى المختلفة إزاء السقف المحتمل لهذا الانتقال السياسي، حيث إن كل طرف سوف يُعيد ترتيب حساباته من جديد قبل أن يبدي موقفاً واضحاً إزاء ذلك، باعتبار أن المرحلة القادمة سوف تفرض تأثيرات مباشرة على خريطة توازنات القوى.
أزمة مزدوجة
في النهاية، يمكن القول إن مشهد الاقتتال المذهبي الشيعي–الشيعي في بغداد، الذي تصاعدت حدته يومي 29 و30 أغسطس الجاري، يشكل نقطة فارقة بين ما قبله وما بعده، بعد أن أصبحت الأزمة العراقية مزدوجة على المستويين السياسي والديني، وبالتالي فالمحك المقبل سيتوقف على القدرة على طيّ صفحة الجمود السياسي والصراع الديني في المشهد العراقي بشكل عام.