تمّ الخميس الماضي 18 أغسطس نشر نصّ الدستور الجديد في الجرائد الرسمية للجمهورية التونسية، وبذلك يصبح هذا الدستور من الناحية الإجرائية نافذاً وساري المفعول من تاريخ نشره.
ويأتي هذا الحدث المهم ليعلن عن نهاية مرحلة الضغوطات التي مارستها أساساً حركة النهضة الإخوانية وحلفاؤها وباقي فصائل المعارضة الأخرى، وإنْ كان ذلك بالنسبة لهذه الأخيرة لأسباب أخرى متعلّقة بالتمشّي الانفرادي للرئيس التونسي قيس سعيّد وبمحتوى الدستور الذي رأوا فيه اختلالاً واضحاً في التوازن بين السلطات، وهي ضغوطات كانت الغاية منها دفع قوى غربية – الولايات المتحدة تحديداً – إلى السّعي لتعطيل عملية النشر ما أمكن.
ويبدو أنّ هذه القوى الغربية التي تتحرّك فقط وِفْقَ مصالحها، قبلت بالأمر الواقع التونسي، وبحسب بيان صادر عن السفارة الأمريكية في تونس، إثر لقاء القائمة بالأعمال بوزير الخارجية التونسي لنقاش الشراكة بين البلدين، فإنّ واشنطن أكّدت على «أهمية المضيّ قدماً في عملية إصلاح تشاركية وشفافة بما في ذلك اعتماد قانون انتخابي يتيح أوسع مشاركة ممكنة في الانتخابات التشريعية المقبلة».
وأعربت القائمة بالأعمال عن دعمها للجهود التونسية لتحقيق إصلاحات اقتصادية تعزز ازدهار التونسيين على المدى الطويل، وقامت بدعوة قيس سعيّد لزيارة الولايات المتحدة ديسمبر المقبل، وهو ما يعني أنّ مسألة الدستور أصبحت بالنسبة لها من الماضي.
وسريعاً ما التقطت حركة النهضة الرسالة، وكان رئيسها راشد الغنّوشي بادر بالإعلان عن استعداد حزبه للمشاركة المشروطة في انتخابات تشريعية رغم يقينه بأنّه وحزبه ليسا في وضعٍ يسمح لهما بإملاء أيّ شروط، بما يرجّح أنّه مجرّد خطاب للاستهلاك الداخلي للحزب لوَقْفِ المزيد من نزيف الانشقاقات.
ولعلّ التدوينة التي نشرها القيادي في الحركة الإخوانية محمد القوماني – وهو من أبرز المقربين للغنوشي – هي دليل قاطع على أنّ «النهضة» دخلت مرحلة البحث العبثي وقد يكون المستحيل عن محاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه، القوماني أعلن أنّ اللّعبة انتهت وأنّه يتعيّن الاعتراف بأخطاء «النهضة» في تقييم ما جرى في تونس و«بسوء تقديرها» لحراك 25 يوليو 2021 ومستقبله، وبمسؤوليتها عما آلت إليه الأوضاع، وأكّد القيادي الإخواني ضرورة الانصراف إلى القيام بـ:«مراجعات عميقة ومقاربات مختلفة وناجحة في التعاطي مع مرحلة جديدة واستئناف المسار الديمقراطي المعطّل».
ولا بدّ من التوضيح بأنّ خطورة هذا التصريح رغم تغليفه بالطابع الشخصي ترجع ليس فقط لقرب هذا القيادي الإخواني من الغنّوشي، ولكن بالأساس للدور الاستراتيجي وللخدمات التي قدّمها ويقدّمها للحركة الإخوانية كلّما كانت في وضع صعب وكلّما احتاجت إلى تواصل مع المجتمع المدني التونسي، نظراً لاتّساع شبكة علاقاته.
والمهمّ في كلّ هذا أنّ حركة «النهضة» أقرّت بفشلها في تجييش الشارع التونسي ضدّ الرئيس التونسي وفي إقناع من تعتبرهم حلفاءها في الغرب بأنّها حاملة لواء الدفاع عن الديمقراطية، وهو ادّعاء نعتبره من «الكبائر».
وهذا الفشل تعدّدت أسبابه ومنها: أنّ الحزب الإخواني كفّ أن يكون حزباً «مقاوماً» و«مدافعاً» عن الحريات بمجرّد دخوله بوتقة الحُكْمِ، وبالتالي أصبح خاضعاً لمنطق ولقانون السلطة وسيحاسب مثل غيره من الذين مرّوا من هناك بمقتضى قانون الحُكْمِ وأنّ ما جاءت به السلطة من دعم «شعبي» وقتي ومهزوز وكذلك جحافل الانتهازيين ذهب كلّه مع ذهاب السلطة، وانفضّ الجميع من حول الحركة الإخوانية، ولأنّ الحماية التي كان يوفّرها وجود «النهضة» في الحكْمِ انتهت صلاحياتها وأصبح الخوف هو سيّد الموقف وغاب «الإقدام» المغشوش، عن الذين كانوا في الإدارة وفي مفاصل الدولة يقدّمون الخدمات للنهضة، وغاب هذا «الإقدام» بالخصوص عن حزامها ومناصريها الذين دخلوا مرحلة الخوف والشكّ فتوقّف «نضالهم» وتركوها لمصيرها.
فشلت إذن كلّ رهانات النهضة الإخوانية، ابتداء من محاولة تعطيل مسار الاستفتاء وعْياً منها بخطورة تركيز دستور جديد على منظومة حُكْمِها، ومروراً بمحاولة الإقناع الفاشلة «للغرب الديمقراطي» بأنّها تدافع عن قيم الحرّية والديمقراطية نتيجة انتهازية هذا الغرب الذي عاين الفشل الميداني لحركة «النهضة» في تجييش الشارع وبناء تحالفات جدّية مع قوى مدنية تتمتّع بوجود فعلي، وكذلك بعد معاينة التنصّل المتبادل بينها وحلفائها الذين يبحثون عن مخرج أصبح في تقديرنا مستحيلاً.
هو بالتأكيد الفشل المحتوم، وبعد أن كان الأمل في محاولات الإقناع بفكرة «الانقلاب» أصبح أمَلاً في تعطيل مسار الدستور ليصبح هذا الأمل الآن معقوداً على مجرّد تنظيم «انتخابات تشريعية تشاركية».
إنّ الاعتقاد يسود بأنّ تصريح القوماني هو أمر دُبّر مع الغنّوشي في إطار مهمّته الأخيرة لإنقاذ الوجود الإخواني من الاندثار، والرأي عندنا بأنّه من شبه المستحيل إنقاذ «إخوان» تونس بضغوط خارجية أو بتوافقات جديدة أو بإعادة بناء لهذه التنظيمات أو حتّى بمراجعات فكرية نراها مستحيلة ولا تتماشى مع المنطلقات الفكرية والسياسية لجماعات «الإخوان» والإسلام السياسي.
نقلا عن البيان