ممكنات الأمن الغذائي العربي – الحائط العربي
ممكنات الأمن الغذائي العربي

ممكنات الأمن الغذائي العربي



آذنتْ جائحة كورونا وما تولّد في سياقاتها من مشكلاتٍ حادة مفاجئة، غير متوقعة، بوضع أزمة الغِذاء على رأس الأزمات التي تعصف بأصقاع كثيرة من العالم، مع استثناءات تتعلق بالبلدان التي نجحت، في العقود الماضية، في إقامة اقتصاد غذائي قوي ومستقر. وهي أزمة تكاد تعادل، في حدتها، تلك التي قد تعانيها بلدان من العالم حين تضربها موجات جفاف مديدة يتوقف معها المنتوج الزراعي أو تتردى نِسَبُهُ التردي الخطير.

أنتجت جائحة الوباء مشكلتين على هذا الصعيد: عطلت الإنتاج في الميدان الزراعي وفي قطاع الصناعات الغِذائية لفترة طويلة امتدت منذ أشهر الحجْر الصحي وقرارات الإغلاق إلى ما بعدها بزمن آخر؛ ورفعت أسعار المواد الغذائية ارتفاعاً صارخاً – في امتداد ارتفاع أسعار المحروقات ومعها أسعار الشحن – إلى الحدود التي لم تعد القوة الشرائية العامة تقوى على تحملها؛ وخاصة في البيئات الاجتماعية الفقيرة، بل والمتوسطة أيضاً. ولا يبدو أن غبار هذه الأزمة سينجلي سريعاً بالنظر إلى تعاظم ندرة السلع الغذائية المستمر، وارتفاع أسعارها المتواصل في كل مكان من العالم.

عانينا، في البلاد العربية، ما عاناه غيرنا في العالم على هذا الصعيد؛ تعطل الإنتاج، ندرة المواد الغذائية، ارتفاع الأسعار، الاضطراب في انسيابية حركة الصادرات والواردات… إلخ. كان ذلك كله بفعلِ فاعل هو وباء كورونا. ولكن كان يمكن لذلك أن يحصل في أي وقت آخر، غير زمن الوباء، إن لم يُصْرَف الاهتمام المناسب في السياسات العامة لمسألة الغذاء، ولتأمين حاجات مجتمعاتنا وشعوبنا منه، وتنمية قدرتها الشرائية وتعزيزها وحمايتها. وغني عن البيان أن جزءاً من حل هذه الأزمة إنما يكون بتحقيق وفرة السلع الغِذائية. ولكنها الوفرة التي لا يقع بلوغها إلا ببرنامج تنموي حقيقي في مجالات الزراعة والصناعات الغذائية ووسائل تسويق سلعها. كما أنها الوفرة والكفاية اللتان يمتنع أمرهما على البلد الواحد فتفرضان مشروعاً عربيّاً أوسع وأشمل.

وما من شكّ في أن لدينا، في الوطن العربي، ممكنات واقعية لتوفير أمن غِذائي حقيقي يشبع احتياجات البلدان العربية كافة من الغِذاء. صحيح أن قسماً عظيماً من جغرافيا هذه البلاد تشغله صحارى وتتقلص فيه رقعة التربة الخصبة؛ وصحيح أن الأغلب الأعم منها يعاني نقصاً فادحاً في الموارد المائية؛ ثم صحيح أن كثيراً من هذه البلدان يغلب عليها النقص في اليد العاملة الزراعية وفي الخبرة الفلاحية عموماً.

مع ذلك، توجد لدينا عشرات الملايين من الهكتارات من الأراضي الزراعية الخصبة في بلدان مثل المغرب، وتونس، وعلى ضفتي النيل في مصر والسودان، وفي سهل البقاع والجنوب في لبنان، وفي الجزيرة الفراتية في سورية، وعلى ضفتي دجلة والفرات في العراق، مثلما توجد لدينا أنهار كبرى وأودية تضخ قوة مائية هائلة، ناهيك عن وجود سلاسل جبلية مرتفعة بآلاف الأمتار تستقبل كميات هائلة من الثلوج تغذي المخزون المائي في البلدان العربية التي توجد فيها (سلسلة جبال الأطلس في المغرب، جبل شيخا دار في العراق، جبل الشّيخ في سورية ولبنان، جبل كينيتي في السودان…إلخ)، ناهيك بملايين الفلاحين واليد العاملة الزراعيّة ذات الخبرة التاريخية العريقة (خاصة في بلدان مثل مصر، والمغرب، وسورية، والسودان، ولبنان…). وهذه جميعها موارد طبيعية وبشرية قابلة للاستثمار في مشروعٍ عربي للأمن الغِذائي.

حين نتحدّث عن مشروعٍ عربي للتنميّة الغذائية المشتركة، فإنما نتحدث عن بنية متكاملة: من الاستثمارات المالية إلى المنتوجات وتسويقها. ولا شك في أن الاستثمارات هي وقود مثل هذا المشروع؛ فبها سيستصلَح من الأراضي ما ليس جاهزاً للفلْح لتتسع رقعة الأراضي الخصبة؛ وتُمَدّ المياه السطحية من مجاريها إلى المناطق المزروعة؛ وتُسْتَخرج المياه الجوفية؛ وتُعَدّ دراسات تطوير الهندسة الزراعية؛ وتقام الشركات الإنتاجية العامة والخاصة والمختلطة؛ وتقام بنية متكاملة للصناعات الغِذائية؛ وتُنْشَأ معاهد البحث الزراعي ومدارس لتكوين المزارعين المهرة…إلخ. ويمكن لقوى الاستثمارات العربية – الحكومية أو الخاصة – أن توقع اتفاقات شراكة مع الدول التي تحتضن أراضيها تلك المشروعات الزراعية قصد الاستفادة من العائدات الغذائية والمالية على السواء. وليس من شك في أن وجه الوطن العربي سيتغير على صعيد تأمين غِذائه بنفسه، وعلى صعيد تحرير إرادته من الارتهان لِمن يوفرون له غِذاءه من الأجانب.

على أن مشروعاً كهذا لن يصيب حظوظ النجاح كاملة إلا متى أمكن تشييد بنية تحتية عصرية للمواصلات الرابطة بين البلاد العربية، وإقامة شبكة الطرق الرابطة أفقياً بينها؛ ومد خطوط السكة الحديد؛ وتطوير الموانئ والمرافئ وإعادة تأهيلها لإجابة حاجات الشحن والتسويق البحريّين؛ والتخفيف من أعباء النظام الجمركي…إلخ. وهذا كله لن يفيد منه الغِذاء فحسب، بل جملة ما يدخل في عداد عوامل الاندماج الاقتصادي العربي.

نقلا عن الخليج