أعلن “سامي الطاهري” المتحدث باسم الاتحاد التونسي العام للشغل، في 10 أغسطس 2022، عن رفض الاتحاد للموقف الأمريكي الحالي إزاء الأوضاع السياسية الراهنة في البلاد، ووصف تصريحات المسؤولين الأمريكيين بأنها تدخلات سافرة في الشؤون الداخلية للبلاد، وهو بذلك يعرب عن موقف الاتحاد التونسي العام للشغل الرافض لمسألة التدخل الخارجي في شؤون البلاد الداخلية، متماشياً مع موقف الرئيس “قيس سعيد” وقطاعات واسعة من الشعب التونسي الرافضة لذلك الأمر.
مؤشرات هامة
عقب الإعلان عن النتائج النهائية للاستفتاء الشعبي على الدستور التونسي الجديد بموافقة 94% من الناخبين عليه وإقراره، ازداد القلق والانخراط الأمريكي في الأزمة السياسية الراهنة في تونس، ومن المؤشرات الدالة على هذا الموقف الأمريكي ما يلي:
1- تآكل الديمقراطية في تونس، حيث أطلق وزير الدفاع الأمريكي “لويد أوستن” خلال مؤتمر عقد بمدينة “شتوتغارت” الألمانية لتغيير القيادة العسكرية الأمريكية في أفريقيا (أفريكوم)، في 8 أغسطس الجاري، تصريحات أشار فيها إلى قلق بلاده إزاء وجود ما أطلق عليه “رياحاً معاكسة” للتجربة الديمقراطية في تونس التي أصبح حلمها بأن تحكم نفسها في خطر، خاصة وأن هناك صراعاً بين من أطلق عليهم “أوستن” داعمي الديمقراطية في مواجهة قوى الاستبداد والفساد.
كماأعرب وزير الخارجية الأمريكي “أنتوني بلينكن”، في 30 يوليو الماضي، عن القلق الأمريكي إزاء التراجع المقلق في المعايير الديمقراطية على مدى العام الأخير منذ فرض الإجراءات الاستثنائية في 25 يوليو 2021 وحتى إقرار الدستور الجديد. وأرجع “بلينكن” هذا القلق إلى بعض الإجراءات التي قام من خلالها الرئيس “سعيد” بحل بعض المؤسسات، وخاصة البرلمان والمجلس الأعلى للقضاء، وتعيين آخر مؤقتاً بديلاً له، وهو ما أثر سلباً على مكتسبات الشعب التونسي التي حصل عليها عقب الثورة الشعبية في عام 2011، وأشار إلى أن الدستور الجديد يمكن أن يؤدي إلى إضعاف الديمقراطية في تونس.
2- تعليق الحكم الديمقراطي، إذ أعرب السفير الأمريكي الجديد في تونس “جوي هود” (لم يتسلم مهام منصبه بعد منذ إعلان تعيينه في شهر مايو الماضي) خلال جلسه عامة للجنة الشؤون الخارجية بمجلس الشيوخ الأمريكي عقب إعلان نتيجة الاستفتاء على الدستور التونسي الجديد مباشرة في 29 يوليو الماضي، عن أن العام الماضي شهد تآكلاً لمعايير الديمقراطية والحريات الأساسية لأفراد المجتمع التونسي، وكان ذلك نتيجة لأفعال الرئيس “قيس سعيد” التي أدت إلى تعليق الحكم الديمقراطي، وفي المقابل تعزيز السلطة التنفيذية، وتكريس الصلاحيات في يد رئيس الدولة بشكل كبير.
3- تقويض حقوق الإنسان، وفي 28 يوليو الماضي أعرب “نيد برايس” المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية الأمريكية، عن مخاوف واشنطن من أن يتضمن الدستور الجديد لتونس ضوابط وتوازنات ضعيفة قد تؤدي إلى تقويض الحقوق والحريات الأساسية للشعب التونسي خلال الفترة القادمة.
متغيرات سياسية
جاء الموقف الأمريكي الراهن تجاه تونس، في سياق ما تشهده البلاد من بعض المتغيرات السياسية التي تشهدها مرحلة ما بعد الموافقة على الدستور الجديد للبلاد، ومن ذلك ما يلي:
1- رفض رسمي وشعبي للتدخلات الخارجية، أثار الموقف الأمريكي إزاء الموافقة على الدستور الجديد في تونس، رفضاً رسمياً وشعبياً، وهو ما عبر عنه استدعاء الخارجية التونسية للقائمة بأعمال السفير الأمريكي في تونس “ناتاشا فرانسيشي”، وإبلاغها بالاحتجاج الرسمي على تصريحات المسؤولين الأمريكيين، ورفض التدخلات الأمريكية غير المبررة في الشؤون الداخلية للبلاد. كما أعلن الاتحاد التونسي العام للشغل وبعض القطاعات الشعبية عن رفضهم للتدخلات الأمريكية في شؤون بلادهم الداخلية، وأن الموقف الأمريكي الراهن لا يعكس حقيقة الوضع في تونس أو الجهود المبذولة منذ 25 يوليو 2021 لإعادة هيكلة وتأهيل الحياة السياسية على أسس صحيحة ومتينة لإصلاح تراكمات العشرية السابقة في وقت قياسي وبناء نظام ديمقراطي حقيقي.
2- دعوات داخلية للحوار والمصالحة الوطنية، عقب الإعلان عن النتائج النهائية للاستفتاء على الدستور، طرحت بعض الأحزاب السياسية مثل حزب الدستوري الحر برئاسة “عبير موسى” دعوة لتشكيل جبهة معارضة داخلية قوية وإجراء حوار وطني بإشراك الاتحاد التونسي العام للشغل بغرض تغيير الدستور الحالي عبر إعادة صياغة بعض الفصول التي ينص عليها وخاصة تلك التي تمنح رئيس الدولة صلاحيات موسعة من شأنها تكريس حكم الفرد والديكتاتورية في البلاد؛ إلا أن هذه الدعوة لم تَلْقَ قبولاً من اتحاد الشغل الذي دعا بدوره رئيس الدولة لإجراء حوار وطني حقيقي ومصالحة وطنية شاملة لإخراج البلاد من أزمتها الحالية، وفي الوقت نفسه أكد الاتحاد على ضرورة إشراك كافة القوى في هذا الحوار، مع رفضه أن يكون أداة في المعارضة أو النظام السياسي القائم، وفي ذلك إشارة إلى تمسك الاتحاد بموقفه الحالي المعارض والمبني على مطالب اقتصادية واجتماعية دون التحالف مع أي من القوى السياسية المعارضة لرئيس الدولة.
3- تهديدات بتنفيذ إضراب عام، قبل عدة أيام أعلن “نور الدين الطبوبي” الأمين العام لاتحاد تونس للشغل، عن اتجاهه لتنفيذ إضراب عام في كافة أنحاء البلاد (لم يحدد موعده بعد) إذا لم تستجب الحكومة التونسية للمطالب التي سبق وعرضها من قبل حول حقوق العمال وموظفي المؤسسات الدولية، ورفضه لاستجابة حكومة “نجلاء بودن” لشروط صندوق النقد الدولي بشأن تجميد الرواتب والأجور، نظير الحصول على قرض بقيمة 4 مليارات دولار لإنعاش الاقتصاد الوطني للبلاد.
4- دعم فرنسي لإجراء وطني تونسي، تزامن الموقف الأمريكي تجاه الأوضاع السياسية الراهنة في مرحلة ما بعد الاستفتاء على الدستور، مع اهتمام فرنسي ملحوظ بتطورات الأزمة السياسية في تونس، وانعكس ذلك في التصريحات الأخيرة للرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” التي دعا فيها الرئيس التونسي “قيس سعيد” لإجراء حوار وطني تشارك فيه كافة الأحزاب والقوى السياسية والمدنية، وأيضاً أهمية مواصلة الإصلاحات السياسية والدستورية في إطار حوار شامل، وكذلك التأكيد على الدعم الفرنسي للمساعي التونسية للحصول على قرض من صندوق النقد الدولي، بالإضافة إلى استعداد باريس لتلبية احتياجات الشعب التونسي الغذائية في ظل النقص الحاد في المواد الغذائية بسبب الأزمة الأوكرانية.
دلالات عاكسة
يحمل الموقف الأمريكي تجاه مرحلة ما بعد إقرار دستور الجمهورية الجديدة، بعض الدلالات السياسية الهامة، ومن ذلك ما يلي:
1- حماية الممارسة الديمقراطية، عكست التصريحات الخاصة بالمسؤولين الأمريكيين الشعارات التي ترفعها الإدارة الأمريكية الحالية برئاسة “جو بايدن” وخاصة فيما يتعلق بحماية الممارسات الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان والحريات العامة، ومن هذا المنطلق جاء الموقف الأمريكي الذي يعبر عن قلقه إزاء أوضاع حقوق الإنسان في تونس خلال الفترة القادمة، حيث تم الاستناد في ذلك إلى تصريحات قادة المعارضة السياسية الرافضين لنصوص الدستور المتعلقة بصلاحيات رئيس الدولة والحقوق والحريات، وبالتالي فقد رأت واشنطن إمكانية توظيف هذه المواقف الداخلية، والتدخل تحت عنوان حماية الحقوق والحريات.
2- تدخل مباشر في الشأن الداخلي التونسي، يعكس الموقف الأمريكي تجاه الأزمة السياسية التونسية تدخلاً مباشراً وصريحاً في الشؤون الداخلية للبلاد، فلم يقتصر الأمر على التعبير عن القلق إزاء احترام الدستور الجديد للحقوق والحريات والممارسات الديمقراطية، بل وصل إلى حد الإشارة الصريحة إلى الدعم الأمريكي لما أطلق عليه المسؤولون الأمريكيون “أصدقاء واشنطن” داخل تونس، ومساعدتهم على إقامة نظام ديمقراطي منفتح يخضع للرقابة والمساءلة، في إشارة -ربما- إلى حركة النهضة التي تربطها علاقات وثيقة ببعض المسؤولين الأمريكيين في الإدارة الحالية وسبق مطالبتهم لواشنطن بالتدخل المباشر لإعادتها للسلطة مرة أخرى. ويؤكد على ذلك أن تصريحات المسؤولين الأمريكيين جميعها أشارت إلى استمرار الدعم الأمريكي للشعب التونسي من أجل تحقيق طموحاته في إقامة نظام سياسي ديمقراطي يحترم حقوق الإنسان والحريات الأساسية للمواطنين.
3- توظيف الأداة الاقتصادية، تعكس تصريحات المسؤولين الأمريكيين الأخيرة تجاه الأوضاع في تونس، تهديداً أمريكياً للقيادة السياسية التونسية بإمكانية منع أو تأجيل حصول الحكومة التونسية على قرض من صندوق النقد الدولي وغيره من المؤسسات المالية الدولية المانحة، في حالة عدم استجابة الرئيس التونسي للمطالب الأمريكية باحترام الحقوق والحريات، وترسيخ الممارسات الديمقراطية في البلاد، فالولايات المتحدة الأمريكية تعد من الدول المانحة الكبرى التي تعتمد عليها تونس لتسهيل الحصول على مساعدات اقتصادية أو قروض لإنعاش اقتصادها الوطني. وتجدر الإشارة إلى أن الموقف الأمريكي الراهن قد يؤثر سلباً على مسألة التعامل مع المؤسسات الدولية المانحة ومن ثم التأثير على موقف هذه المؤسسات تجاه تونس، وهنا قد تلجأ واشنطن لزيادة ضغوطها على تونس للتماشي مع توجيهاتها فيما يتعلق بتعزيز التجربة الديمقراطية في البلاد.
4- مكافحة الإرهاب والحد من الهجرة غير الشرعية، تهدف الانتقادات الأمريكية المتزايدة للأوضاع السياسية في مرحلة ما بعد الاستفتاء على الدستور الجديد في تونس، إلى تحقيق هدف رئيسي هو الحفاظ على الاستقرار السياسي في تونس باعتبارها دولة ذات أهمية استراتيجية في منطقة جنوب المتوسط والمغرب العربي، خاصة وأن واشنطن تتعاون معها في عدة ملفات هامة وعلى رأسها مكافحة الإرهاب، والحد من تدفقات الهجرة غير الشرعية إلى الدول الأوروبية.
5- محاولة إجبار الرئيس على تلبية مطالب المعارضة، تهدف الضغوط الأمريكية المتصاعدة على الرئيس “قيس سعيد” كذلك إلى دفعه للاستجابة لمطالب المعارضة السياسية بالداخل، ويعزز ذلك إصدار القضاء الإداري حكماً في 10 أغسطس الجاري بعدم تنفيذ القرار الرئاسي الخاص بعزل عشرات القضاة (57 قاضياً) الذين عزلهم “سعيد” في شهر يونيو الماضي؛ بحجة تورطهم في قضايا فساد مالي وإداري وتعطيل العدالة الناجزة، ويعد هذا الحكم انتصاراً للقضاة الذين يواصلون تظاهراتهم وإضراباتهم احتجاجاً على عزل هؤلاء القضاة. ورغم أن تنفيذ هذا الحكم القضائي قد يستغرق وقتاً طويلاً، فإن ذلك لا يتماشى مع إجراءات الرئيس “سعيد” لمكافحة الفساد وتعزيز شرعيته في الداخل.
توظيف معاكس
خلاصة القول، إنه برغم الانتقادات الأمريكية المتزايدة، إلا أنه من المرجح أن يؤدي ذلك إلى مواصلة الرئيس “قيس سعيد” تنفيذ ما تبقى من الإصلاحات السياسية والدستورية وفقاً للمواعيد الزمنية المحددة لذلك، كما سيتم توظيف هذا الموقف لزيادة شعبية الرئيس “سعيد” على المستوى الداخلي، مع عدم استبعاد تأثير الموقف الأمريكي الحالي على نمط العلاقات السياسية بين واشنطن وتونس ولكن مع عدم التصعيد التونسي لإدراكه أهمية الموقف الأمريكي لتسهيل الحصول على قرض من صندوق النقد الدولي.