يوجه “حزب الله اللبناني” بشكل مستمر رسائل شديدة اللهجة على المستويين العسكري والسياسي إلى إسرائيل جراء عمليات التنقيب عن الغاز في المناطق البحرية المتنازع عليها بين بيروت وتل أبيب وخاصة “حقل كاريش”، ويعرقل جهود الوساطة الأمريكية الهادفة لحل أزمة النزاع على الحدود البحرية القائمة بين البلدين منذ 2007، ويقوم بهذا استناداً إلى جملة من الدوافع، منها: إعادة بسط نفوذه على أجهزة صنع القرار في لبنان، والتلميح بقدرته العسكرية على استهداف إسرائيل، والضغط على واشنطن للحصول على مكاسب متعددة، واستغلال حاجة الغرب لإيجاد مورد بديل للغاز الروسي، ودعم المصالح الاقتصادية للحليف الإيراني، واستغلال الفراغ الحكومي اللبناني للتحكم في مسار المفاوضات.
رفع حزب الله من لهجته التصعيدية ضد إسرائيل هذه المرة بسبب رفض إسرائيل توقف عمليات التنقيب عن الغاز التي تجريها منذ سبتمبر 2021، في الجزء الشمالي من حقل “كاريش” القريب من البلوك رقم 9 أ الذي يقع في المنطقة المتنازع عليها مع لبنان في البحر الأبيض المتوسط. ووجه الأمين العام للحزب “حسن نصر الله” في كلمة له بفيديو نشرته وسائل الإعلام الحربية التابعه للحزب، في 31 يوليو 2022، وحمل عنوان “في المرمى” ويبث لقطات دقيقة لسفن إسرائيلية تقوم بالتنقيب عن الغاز في حقل كاريش؛ تحذيراً شديد اللهجة إلى السلطات الإسرائيلية، قائلاً: “اللعب بالوقت ليس مفيداً في الشأن البحري”، ومضيفاً: “لا يوجد أي هدف إسرائيلي لا تطاله الصواريخ الدقيقة”، وهي اللهجة ذاتها التي أطلقها “نصر الله” في يونيو 2022، قائلاً: “كل الإجراءات التي تقوم بها إسرائيل لا يمكن أن تحمي عملية استخراج الغاز من حقل كاريش، وأي حماقة ترتكبها ستكون لها تداعيات ليست استراتيجية فقط بل وجودية”.
وتأتي إشارة التصعيد هذه بالتزامن مع وساطة أمريكية لإعادة ترسيم الحدود البحرية، والوصول إلى حل وسط يُرضي الطرفين، ويقودها “آموس هوكشتاين” الوسيط الأمريكي في النزاع الحدودي البحري بين لبنان وإسرائيل، وبدأها بزيارة العاصمة اللبنانية بيروت مطلع أغسطس 2022، لاستئناف المفاوضات التي انطلقت بين البلدين في 2020 وتوقفت بسبب خلافات حول مساحة المنطقة المتنازع عليها. ففي البداية تم الاتفاق على التفاوض بشأن حق لبنان في الحصول على مساحة بحرية تقدر بـ860 كيلومتراً مربعاً وفقاً لخريطة أرسلتها إلى الأمم المتحدة، إلا أن بيروت عادت مرة أخرى وقالت إن الخريطة استندت إلى تقديرات خاطئة وطالبت بالتفاوض على مساحة تقدر بـ1430 كيلومتراً مربعاً تشمل أجزاء من حقل “كاريش”.
وفي ظل هذه التطورات، يمكن القول إن هناك جملة من الدوافع وراء تنامي لهجة تصعيد “حزب الله” في هذا التوقيت تحديداً، إما لعرقلة مفاوضات ترسيم الحدود، أو الحصول على مكاسب سياسية واقتصادية، على النحو التالي:
نفوذ داخلي
1- إعادة بسط نفوذه على أجهزة صنع القرار في لبنان: يريد حزب الله استغلال ملف ترسيم الحدود البحرية، لإعادة نفوذه في الداخل اللبناني، وذلك بعد خسارته الأغلبية في الانتخابات التشريعية التي عقدت في مايو 2022، وحصل على 62 مقعداً داخل البرلمان المؤلف من 128 عضواً، ومن ثم فإن استئناف مفاوضات ترسيم الحدود يعد فرصة للحزب لإعادة التأكيد على أنه لا يزال يلعب دوراً ذا تأثير في لبنان وهو ما يمكنه لإعادة توجيه المجتمع اللبناني وفقاً لمصالحه الإقليمية، للحيلولة دون عزله سياسياً بالحصول على حد أدنى من التوافق الداخلي لدعم قراراته من ناحية، والتأكيد على قدرة لبنان على الانتقام من إسرائيل كما حدث في 2006 عندما دخل الحزب حرباً مع إسرائيل استمرت لمدة شهر من ناحية أخرى.
وتأتي محاولات حزب الله تلك لإيصال رسالة إلى بعض الدول الغربية التي تنتقد تدخله في مفاوضات ترسيم الحدود رغم أنه ليس طرفاً، مفادها أن خسارته الأغلبية لا تعني ابتعاده عن حسم بعض الملفات العالقة مع الخارج ومن أهمها “ترسيم الحدود”، وأن قرار السلم والحرب بيد الحزب وحده. وللتأكيد على هذه الرسالة أصدر الحزب وحركة أمل بياناً مشتركاً، في 18 يوليو 2022، حذرا فيه من استهداف إسرائيل لثروات لبنان النفطية، بالقول: “لا بد أن تُواجَه محاولات إسرائيل لاستخراج الغاز بكافة الوسائل المتاحة والاستفادة القصوى من كل أوراق القوة وعلى رأسها المقاومة المقتدرة التي حققت وتحقق الانتصارات” (في إشارة إلى المواجهات السابقة التي خاضها الحزب مع إسرائيل).
قوة رادعة
2- التأكيد على قدرة حزب الله على استهداف إسرائيل بشكل أوسع: يوجه الحزب رسالة إلى السلطات الإسرائيلية بأنه ليس قادراً فقط على استهداف منصات استخراج الغاز الإسرائيلية في حقل كاريش، بل استهداف أي منصة غاز بحرية تابعة لإسرائيل، وهذا ما أكده “نصر الله” خلال مقابلة له مع قناة “الميادين” اللبنانية مطلع أغسطس 2022، قائلاً: “جميع حقول الغاز الإسرائيلية مهددة من صواريخنا، وليس كاريش فقط. لا يوجد هدف في البحر أو في الجو لا يقع في مرمى صواريخ حزب الله الدقيقة”، ومضيفاً: “إذا بدأ استخراج النفط والغاز الإسرائيلي من كاريش في سبتمبر 2022 قبل أن يحتفظ لبنان بحقوقه، فإننا سنتجه نحو المواجهة”.
ويأتي تحذير “نصر الله” لإسرائيل بعد قيام قوات الحزب في 3 يوليو 2022، بإطلاق ثلاث طائرات مسيرة غير مسلحة باتجاه المنطقة المتنازع عليها في حقل كاريش، للقيام بمهمات استطلاعية، وهو ما يعني أن الحزب اللبناني أراد القول إنه يتابع جميع الأنشطة التي تقوم بها إسرائيل عن كثب، وأنه قادر على الدخول في مواجهة في أي وقت، وفي هذه الحالة سيطلق طائرات مسيرة مسلحة أو صواريخ باتجاه منصات الغاز في المناطق المتنازع عليها. ويبدو أن هذه الرسالة قد وصلت لتل أبيب، إذ قال مستشار الأمن القومي الإسرائيلي السابق “يعقوب عميدرور” عقب تحذيرات “نصر الله”: “علينا أن نأخذ تحذيرات الأمين العام لحزب الله على محمل الجد، خاصة أنه إذا لم يكن هناك اتفاق على كاريش عندما يحين وقت استخراج الغاز، فيجب أن نفترض أنه ستكون هناك حرب”.
مورد بديل
3- استغلال حاجة الغرب إلى بديل للغاز الروسي: تأتي مساعي الحزب اللبناني لإدراكه جيداً أن الدول الأوروبية وأمريكا بحاجة ماسة إلى إيجاد مورد بديل عن النفط والغاز الروسيين، وأن ما تقوم به إسرائيل حالياً بالضغط على لبنان للإسراع في توقيع اتفاق لترسيم الحدود المشتركةبل وإرسالها منصات للتنقيب عن الغاز، هو محاولة من قبل تل أبيب لاستغلال الأزمة الأوكرانية وفرض الغرب عقوبات على موسكو، لتوفير بديل للغاز الروسي، خاصة بعد توقيع الاتحاد الأوروبي في يونيو 2022 اتفاقاً مع إسرائيل يتم بموجبه حصول أوروبا لأول مرة على صادرات كبيرة من الغاز الإسرائيلي بعد أن كان يحصل على حوالي 40٪ من واردات موسكو من الطاقة في عام 2021.
ومن ناحية أخرى، يعي الحزب المدعوم من إيران أن نجاح بلاده في السيطرة على مساحة بحرية أوسع للتنقيب عن الغاز ومساعدة أوروبا في إنهاء اعتمادها على الغاز الروسي، يمكن أن يُسهم في خروج لبنان من الأزمات الاقتصادية والمعيشية المتردية التي تعاني منها، وهو ما أكده “نصر الله” في تصريحاته، بأن “واشنطن لا تريد حرباً في المنطقة، لذا هذه فرصة للضغط عليهم من أجل نفطنا والمطالبة بحدودنا البحرية لاستبدال الغاز الروسي عبر الأنابيب اللبنانية”.
مكاسب طهران
4- دعم المصالح الاقتصادية للحليف الإيراني: لا يستطع “حزب الله” تنفيذ تهديداته تجاه إسرائيل إلا بالحصول على إشارة “الضوء الأخضر” من إيران الداعم الأكبر له، وعليه فإن توجيه “نصر الله” رسائل شديدة اللهجة إلى إسرائيل في هذا التوقيت، وعرقلة أي اتفاقية لترسيم الحدود؛ هي بتعليمات من المرشد الإيراني “علي خامنئي” في محاولة للرد على محاولات تل أبيب لثني إدارة الرئيس الأمريكي “جو بايدن” عن التوصل لاتفاق بشأن مفاوضات إحياء الاتفاق النووي الجارية في فيينا، لأن نجاح تلك المفاوضات يعني عودة واشنطن إلى الاتفاق النووي الذي انسحبت منه في مايو 2018، ورفع العقوبات الاقتصادية عن طهران، وتمكن إيران من تصدير نفطها إلى الخارج بشكل أوسع، خاصة أن إعلان حزب الله عن إطلاق ثلاث مسيرات باتجاه حقل كاريش جاء بالتزامن مع فشل الوساطة التي تقودها الدوحة لإحياء الاتفاق النووي بين واشنطن وطهران.
ولهذا فإن عرقلة مفاوضات ترسيم الحدود تصب في مصلحة طهران، لأن الأزمة التي تشهدها سوق الطاقة العالمية جراء الحرب الروسية الأوكرانية، تخدم بشكل كبير مصالح إيران الاقتصادية، لأن الحظر المفروض على النفط الروسي سيجعل النفط الإيراني مقصداً لأمريكا والدول الأوروبية، كما يبعث “خامنئي” من خلال حزب الله برسالة إلى واشنطن بأن طهران لا تزال قادرة على عرقلة بعض الملفات التي تخص حلفاءها بالمنطقة، وتحديداً ورقة ترسيم حدود إسرائيل الشمالية مع لبنان والغاز العابر من الشرق الأوسط إلى أوروبا.
ضغط واشنطن
5- الضغط على واشنطن للحصول على مكاسب متعددة: يحاول حزب الله إجبار واشنطن للضغط على حليفها الإسرائيلي للموافقة على أية شروط تضعها لبنان في مفاوضات ترسيم الحدود، وأن تحصل بيروت على المساحة البحرية التي تريدها، إذ يعتقد الحزب أنه بتحركاته تلك يقوي موقف بلاده في الوساطة التي يقوم بها الوسيط الأمريكي “آموس هوكشتاين”، مستغلاً مساعي إدارة “بايدن” لحل الأزمات التي تواجه منطقة الشرق الأوسط والتي وعد “بايدن” بحلها قبل الانتخابات النصفية الأمريكية التي ستعقد في نوفمبر 2022، ولكن أمريكا لن تخسر إسرائيل لصالح تحقيق مكاسب لحزب الله، وما يمكن حدوثه هو تجميد واشنطن مرة أخرى لمفاوضات ترسيم الحدود البحرية التي لم تسفر منذ انطلاقها في عام 2012 إلا عن طرح المزيد من الخيارات التي لم تُفعّل، أو تكثيف جهود الوساطة من خلال إبقاء كلا الجانبين على طريق يسهم في حل نزاعهما الحدودي مستقبلاً.
مساومة سياسية
6- استغلال الفراغ الحكومي اللبناني للتحكم في مسار المفاوضات: يعي حزب الله أن إسرائيل دعت واشنطن للإسراع في مفاوضات ترسيم محدود، ليس فقط بسبب محاولة إيجاد بديل للغاز الروسي، وإنما استغلال عدم وجود حكومة لبنانية أصيلة وليست حكومة تصريف أعمال تدير هذا الملف بجدية وتمضي قدماً نحو الأمم المتحدة للحصول على قرار يقضي بتعديل المرسوم رقم 6433 الذي تم إصداره في عام 2011 ليستند على تعديل خط الحدود الفاصلة بين البلدين ليكون الخط 29 بدلاً من الخط 23 والذي بمقتضاه تحصل لبنان على مساحة بحرية تقدر بـ1430 كيلومتراً مربعاً بدلاً من 860، وهذا السبب ذاته هو الذي دفع حزب الله للتدخل لدحض مساعي تل أبيب وعرقلة مسار المفاوضات اللبنانية-الإسرائيلية.
بجانب أن الحزب يحاول إعادة ترتيب أوراقه السياسية آملاً في الضغط على السلطة اللبنانية لمنحه مساحة أوسع في التشكيل الحكومي المرتقب رغم خسارته الأكثرية في انتخابات مايو 2022، وهذا ما أدركه حزب القوات اللبنانية الحاصل على أكبر كتلة برلمانية، الذي رفض تدخل حزب الله في مفاوضات ترسيم الحدود البحرية، قائلاً على لسان عضو تكتل “الجمهورية القوية” النائب “جورج عقيص”، في 19 يوليو 2022: “من الضروري تحييد ملف النفط والترسيم وسحبه من يد جماعة حزب الله، إذ لا بد لهذا الملف من أن يكون بيد الدولة اللبنانية حصراً وبعناية الحكومة، لأن موقف الحزب إزاء تلك المفاوضات التي تتم برعاية أمريكية – أممية، يمكن أن يعرّض لبنان لنزاع عسكري لا قدرة للدولة والشعب اللبناني على تحمله، كما يزيد من عزلة البلاد عربياً ودولياً”.
حسابات أخرى
خلاصة القول، على الرغم من عمليات التصعيد المتبادلة بين إسرائيل وحزب الله، سواء على المستوى السياسي أو العسكري، إلا أنها لن تخرج عن كونها مجرد تصريحات تصعيدية أو هجمات غير مسلحة ذات تأثير قوي، ورغم الدوافع السابق ذكرها فإن حزب الله لن يدخل مجدداً في حرب شاملة مع إسرائيل غير محسوبة نتائجها وتداعياتها على الداخل والخارج، لأنه يعي أن خوض مواجهة عسكرية مع إسرائيل قد يستنزف قدراته العسكرية، خاصة أنه يقوم حالياً بحرب بالوكالة عن إيران في بعض دول المنطقة التي تحتضن مليشيا موالية لطهران خاصة سوريا واليمن، ومع ذلك فإن عرقلته للمفاوضات هدفها الأساسي الحصول على ضمانات غربية تعترف بدوره في ملف ترسيم الحدود، والتأكيد على أن الدولة اللبنانية لا تزال تخضع لسطوة الحزب.