لا يختلف الحال في بغداد، عنه في بيروت، عنه في الخرطوم، عنه في طرابلس الغرب، عنه في تونس العاصمة، ففي العواصم العربية الخمس أزمة تشتد حدتها يوماً، وقد تخف في يوم آخر، ولكنها قائمة لا تجد حلاً، والفارق بين هذه العواصم جميعاً هو في الدرجة لا في النوع!
تبدو العواصم الخمس وكأنها في حالة مخاض عسير، وتبدو وكأنها في انتظار مولود جديد، ولا تعرف وأنت تتابع ما يتفاعل فيها مع مطلع كل يوم جديد، كيف سيكون شكل المولود، ولا كيف ستأتي ملامحه إذا ما أذن الله له أن يخرج إلى النور.
وتشعر في حالات كثيرة، ومن خلال مشاهد متتابعة، ومن ثنايا صور متتالية في العواصم الخمس، بأن محاولات تجري فيها لإعادة إنتاج ما يُسمى الربيع العربي، وأنها محاولات مستميتة لا تعرف اليأس، وأنها تعتقد أنها إذا كانت قد خسرت الجولة الأولى قبل عشر سنوات تقريباً، فإن عليها أن تعود لتجرب حظها من جديد، لعل ما أخفق في المرة الأولى يصادف حظاً في المرة الثانية.
وإحدى نظريات تفسير الأحداث تقول لنا باستمرار إنه لا شيء يأتي من فراغ، وإن كل حدث في كل أرض يخضع لمبادئ علم المنطق التي تربط النتائج بمقدماتها، أو تضع المقدمات قبل نتائجها، ولا تترك الأحداث تسبح في فضاء من الفراغ.
ويجوز أن يكون ما تشهده العواصم الخمس من نوع توابع الزلزال الكبير، الذي إذا وقع واهتزت له المنطقة كانت له توابع تأتي من بعده، ولا تكون في العادة في قوة الزلزال الأم، ولكنها تبقى في حالاتها كلها زلازل صغيرة تهز في محيطها على قدر طاقتها الباقية من الزلزال الأكبر.
ولكن الشيء الذي يبعث على الطمأنينة، أن واقع العواصم الخمس لا يخلو من بادرة للأمل قد تلوح على استحياء في الأفق هنا مرة، وقد تبدو خجولة هناك مرات.
تبدو كل بادرة في مكانها كأنها القمر تنشق عنه السماء فجأة في ليلة غائمة، فيخترق شعاع من النور عتمة الليل، ويمنح الأمل في نهار قادم بعد ليل طويل، وفي فجر يسبق بطبيعته النهار، وفي خيط رفيع من الضوء يتسرب حتماً، فيطرد من أمامه تلالاً من الظلام.
وعندما انتفضت بغداد ضد عدوان تركيا على منتجع سياحي في الشمال، كانت هذه بادرة على أن العراق قادر على هزيمة هذا الليل الطويل، وأنه مهيأ للخروج من النفق الذي أدخله فيه الأميركيون في بدايات هذا القرن، عندما أرسلوا بول بريمر إلى عاصمة الرشيد فأصدر قراراً بحل الجيش العراقي، وكان قراره وبالاً على المنطقة باتساعها، لا على العراق وحده في حدوده التي نعرفها على الخريطة!
لقد خرج العراقيون إلى الشوارع والميادين يرفضون العدوان التركي، ويطلبون القصاص، ويقولون إن استباحة أرض بلادهم يجب ألا تمر من دون عقاب.
وحين ذهبت الحكومة العراقية بتركيا إلى مجلس الأمن، كان ذلك يحدث للمرة الأولى من عشرين سنة بين الدولتين الجارتين، وكان ذهابها مؤشراً على أن السلطة الجالسة في مقاعد الحكم لم يكن أمامها سوى التجاوب مع الانتفاضة التي تمددت بين العراقيين، فلم تجد بديلاً عن إظهار الغضب على جرح كرامة العراقيين، ولا وجدت مفراً من أن تضع نفسها على موجة واحدة من الإرسال والاستقبال مع الناس.
وسوف يكون من دواعي التفاؤل أن تدوم هذه الغضبة في أرض الرافدين، وأن يغضب كل عراقي بالدرجة نفسها لمحاولات إيرانية لا تتوقف لاستباحة القرار السياسي في بلده من جانب طهران. لا بد من غضب عراقي مماثل تراه حكومة المرشد بعينيها وتلمسه بيديها، بالضبط كما رأت أنقرة غضباً لا يساوم في حادث العدوان على المنتجع في كردستان.
وفي بيروت، كانت البادرة في أن «حزب الله» لم يحصل على الأغلبية في مقاعد البرلمان، حين جرت الانتخابات في الشهر قبل الماضي، وكان هذا مؤشراً آخر في العاصمة اللبنانية، على أن الغالبية من اللبنانيين لا يقبلون تغول الحزب على الحياة السياسية في البلد، وأن حصيلة العملية الانتخابية تقول هذا المعنى بأفصح لسان، وأن لا طريق أمام الحزب سوى أن ينصت إلى صوت الغالبية، وأن يلتقط «الرسالة» التي بعثت بها عملية الاقتراع، لأنها معبرة عن صوت الشارع الذي يجب ألا يعلو صوت عليه.
وفي الخرطوم، أعلن الفريق محمد حمدان دقلو الشهير بـ«حميدتي»، نائب رئيس مجلس السيادة الانتقالي الحاكم، تخلي الجيش عن الحياة السياسية للمدنيين، وعودته إلى ثكناته، واكتفاءه بأداء دوره في حماية الحدود، وفي القيام بمهام الحماية الوطنية. وقد ذهب حميدتي، الذي يرأس قوات «الدعم السريع»، إلى أبعد من ذلك، فأعلن استعداده للعمل مع الجيش السوداني لتكوين جيش وطني موحد، وكان معنى كلامه أنه جاهز لاندماج «الدعم السريع» في الجيش السوداني.
ورغم أن هناك مدنيين في السودان شككوا في صدق نوايا حميدتي، وفي صدق مجلس السيادة من ورائه، فإن مبادرة الرجل إلى الإعلان عن ذلك لم تكن تطوعاً من جانبه، ولكنها كانت نزولاً على يقظة ضاغطة يراها في الشارع السياسي، وكانت استجابة لصحوة لدى السودانيين تتنامى في مرحلة ما بعد عمر البشير.
وهذه الصحوة مؤشر ثالث على أن كل ما مر بالأشقاء في السودان طوال مرحلة البشير وما بعدها، لم يطفئ جوهر الشخصية السودانية، ولا نال من الميل الطبيعي في أعماق كل سوداني إلى ممارسة العمل السياسي كما يتعين أن يمارسه المدنيون المتمرسون.
وفي طرابلس الغرب، توصل المتصارعون على الحكم إلى ضرورة أن يكون في البلد رئيس أركان واحد للجيش، لا رئيسان، أحدهما في الجيش الوطني الذي يقوده المشير خليفة حفتر في الشرق والجنوب، والآخر يتبع الحكومة التي يرأسها عبد الحميد الدبيبة في الغرب.
أدرك الطرفان في النهاية أنه لا بد من جيش واحد يحمي البلاد ويصون مقدراتها، وأن وجود رئيسين للأركان معناه وجود جيشين، وأن وجود جيشين معناه وجود بلدين، وأن وجود بلدين على أرض الوطن الواحد معناه أن الوطن نفسه والمواطن معه سيكونان هما الضحية.
كان لقاء رئيسي الأركان، ثم اجتماع الطرفين من أجل هذا الهدف، مما يبعث على الأمل في أن تنفض ليبيا عنها هذا الكابوس الثقيل.
وفي تونس العاصمة، جرى الاستفتاء الذي دعا إليه الرئيس التونسي قيس سعيد على الدستور الجديد، ورغم ما قرأناه عن توافد أعداد من التوانسة إلى صناديق الاقتراع، ورغم حديث مؤيدي الرئيس عن أن مشروعه الدستوري يحمي مشروع الدولة الوطنية، فإن مقاطعة عدد من أحزاب المعارضة للاستفتاء، معناه أن في تونس انتعاشة سياسية، ومعناه أن لدى المعارضة في تونس الخضراء ما يمثّل حائط صد أمام أي محاولة – إذا حدثت – للانفراد بالحكم.
هذه إضاءات في العواصم الخمس على بُعد المسافة بينها، وهذه علامات على أن الروح في عواصم العرب قد تمرض ولكنها لا تموت!
نقلا عن الشرق الأوسط