ما يحدث أمام أعيننا فى تونس يستدعى تفكيرا عميقا بعيدا عن صراعات السياسة وجدالات أهلها. لدينا رئيس منتخب ديمقراطيا قرر تعطيل عمل مؤسسات أخرى يشغلها أعضاء هم أيضا منتخبون، وإعداد دستور يؤسس لنظام سياسى جديد، متمتعا فى ذلك بتأييد شعبى قوي. مر عام كامل على بدء الإجراءات التصحيحية للرئيس سعيد، وكادت عملية التصحيح تكتمل بعد إقرار الدستور الجديد. التطورات السياسية فى تونس تتيح فرصة للتفكير مجددا فى قضايا الحكم والشرعية والتمثيل الشعبى والديمقراطية فى النظم السياسية العربية. تونس هى البوابة التى دخلت منها ثورات الربيع إياه للمنطقة، وفيها تأسس نظام سياسى هو الأقرب فى العالم العربى للديمقراطيات الغربية، فحظى بأعلى مستويات الدعم الغربى ماليا وفنيا للمساعدة فى إنجاحه، لكن بعد عشر سنوات على بدء التجربة يبدو الأمر كله قيد المراجعة.
ما حدث فى تونس فريد من نوعه، فلا هو ثورة، وإن وقف أغلبية المواطنين خلف قرارات الرئيس؛ ولا هو انقلاب، رغم أن قوات الجيش والشرطة تعاونت فى تنفيذ قرارات الرئيس. المتابعون المحايدون يعتبرون ما حصل فى تونس انقلابا دستوريا، فقد حدث تقويض للنظام القائم، لكن هذا التقويض جاء مستندا جزئيا إلى الدستور، ومن جانب رئيس يتمتع بشرعية دستورية كاملة.
المجادلات الدستورية لا تفيد كثيرا فى فهم التطورات فى تونس، لأن النظام السياسى فى تونس قبل قرارات الرئيس سعيد فى الخامس والعشرين من يوليو العام الماضى، لم يكن يعمل، وهذه هى المشكلة. فبينما نما الاقتصاد التونسى بمعدل سنوى بلغ 4.7% خلال العقد السابق للثورة، فقد انخفض معدل النمو فى العقد التالى للثورة إلى 1.8% سنويا، وإلى سالب 8.7% فى 2020 بسبب كوفيد. قبل الثورة كانت ديون تونس تمثل 47.7% من ناتجها المحلى، فوصلت إلى 87.6% عام 2020. أما البطالة التى كانت قد وصلت إلى 12% قبل الثورة، فقد ارتفعت فى عام 2021 إلى 18.1%، وأكثر من 42% بين الشباب.
مشكلات تونس تحتاج إلى حكومة قوية يمكنها اتخاذ قرارات صعبة، وهذا هو ما لم يكن متاحا. النخبة السياسية التونسية منقسمة أيديولوجيا وسياسيا بين عدد كبير من الأحزاب، لا يملك أى منها أغلبية كافية تمكنه من قيادة البلاد بفعالية، على العكس فإن كلا من أجنحة النخبة المنقسمة لديه من النفوذ والقوة ما يكفى لاعتراض وتعطيل منافسيه، والنتيجة هى أن الجميع يعطلون الجميع، فيما تزيد أوضاع البلاد تدهورا.
المقارنة بين مصر وتونس فى هذا المجال تلقى ضوءا على مسارات التحول السياسى فى العالم العربى، ففى مصر كان لدى الإخوان وحلفائهم من القوة ما مكنهم من الانفراد بالسلطة، فيما كانت الأحزاب المدنية أضعف كثيرا من أن تمنعهم من ذلك بالأدوات الدستورية، فكانت ثورة الثلاثين من يونيو لتجنيب البلاد مصير دولة ولاية الفقيه. فى تونس كان هناك توازن مناسب بين الإخوان والأحزاب المدنية، فتم تعطيل سيناريو الدولة الدينية، وتم تعطيل كل شيء آخر أيضا، وانشغلت النخب السياسية بالدفاع عن أنصبتها فى السلطة والنفوذ والثروة فى صراعات لا تنتهى، فكان لابد من إيجاد مخرج، حتى لو لم يكن دستوريا تماما.
نجح الرئيس التونسى فى إحداث تغيير جذرى فى شكل وتركيبة النظام السياسى فى تونس باستخدام وسائل وأساليب سلمية.أصدر الرئيس التونسى قراراته ضد النخب السياسية الممثلة فى البرلمان والأحزاب السياسية التى تقف وراءها، ونجح فى تنفيذ هذه القرارات فى مواجهة مقاومة واحتجاجات محدودة، حتى إن الرئيس لم يكن مضطرا للجوء لاستخدام القوة إلا بشكل لا يكاد يذكر.
المقاومة المحدودة التى أظهرتها الأحزاب والنخب التونسية فى مواجهة قرارات الرئيس تكشف عن الدرجة العميقة من انهيار النخب السياسية والأحزاب التونسية، بعد انفضاض المواطنين من حولها. المفارقة هى أنه بينما كانت النخب السياسية تتباهى بالنظام البرلمانى والتعددية السياسية والديمقراطية، كان عموم الناس يشعرون بالخذلان تحت وطأة أوضاع اقتصادية متدهورة. أزمة كوفيد 19 أضافت للوضع تعقيدا فوق تعقيد، فقد زادت الضغوط الاقتصادية والاجتماعية على المواطنين بسبب الوباء، فى حين تواصل عجز النخب السياسية عن تقديم حلول للمشكلات المتفاقمة. كان النخب والمواطنون فى تونس يعيشون فى زمانين مختلفين، فبينما كانت النخب تؤرخ صعودها إلى النجومية ومواقع السلطة بالثورة الشعبية العظيمة التى أسقطت حكم الرئيس بن على، فإن الموطنين كانوا يؤرخون بالثورة لدخول اوضاعهم الاقتصادية فى مرحلة من التدهور السريع.
مالم تلحظه النخب التونسية هو أن الثورة التونسية كانت ثورة الجموع المطالبة بتحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وأن الناس خرجت ضد بن على احتجاجا على المشكلات الاقتصادية والمجتمعية، وليس احتجاجا على الطبيعة السلطوية لنظامه، على عكس النخب التونسية التى خرجت ضد بن على أساسا بسبب الاستبداد والانفراد بالسلطة. لقد خرجت النخب على بن على من أجل نصيب أكبر فى السلطة، فى حين خرج المواطنون من أجل نصيب أكبر فى الثروة. حصلت النخبة على السلطة، وعلى الثروة أيضا، فى حين لم يحصل الشعب على شىء، فكان أن انفض الالتحام بين النخبة والجماهير.
دستور تونس الجديد الذى صوت له الناخبون يمنح الرئيس سلطات كبيرة، فى تصويت من جانب الشعب لحكومة ونظام الرئيس القوى من ناحية، وتصويت بعدم الثقة فى الأحزاب السياسية والنخب من ناحية أخرى، وهو نمط تكرر فى عدة بلاد فى منطقتنا. فهل هذا هو النموذج الملائم لبلادنا؟ وكيف نجعل هذا النموذج احتوائيا وتمثيليا وإنسانيا دون أن نحرمه الفاعلية؟
نقلا عن الأهرام