ذهب بعض المحللين السياسيين إلى اعتبار أن قمة طهران التى انعقدت يوم الثلاثاء الماضى وجمعَت بين رؤساء كلٍ من روسيا وتركيا وإيران إنما هى امتداد لاجتماعات أستانة التى مثّلت آلية دورية للبحث عن تسوية سلمية للصراع فى سوريا، وتم وصف قمة طهران فى هذا السياق بأنها تشبّعت بصيغة أستانة , بل وأشير لها فى عدة مصادر باعتبارها قمة أستانة مع أنها عُقدت فى عاصمة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وليس فى عاصمة جمهورية كازاخستان.لكن بغض النظر عن المسميات فإن انعقاد القمة يُضعِف ذلك الرأى الذى تم الترويج له عن أن انغماس روسيا فى الحرب الأوكرانية سيؤدى إلى تراجع دورها فى سوريا سواء لصالح تمدد النفوذ الإيرانى أو لصالح انتعاش التنظيمات الإرهابية وعلى رأسها تنظيم داعش، فها هى قمة طهران تأتى لتبيّن لنا أن روسيا مازالت قادرة على جمع أهم الفاعلين على الأرض فى سوريا أى تركيا وإيران من أجل التشاور والتنسيق معهما، بل إن روسيا توظّف الساحة السورية للرد على مواقف الأطراف المختلفة من تطورات الحرب فى أوكرانيا. وعلى سبيل المثال من الصعب أن نفصل بين سماح روسيا لسوريا باستخدام صواريخ إس ٣٠٠ فى مواجهة هجوم الطائرات الإسرائيلية على أحد الأهداف الإيرانية فى مايو الماضى-وبين رغبة روسيا فى معاقبة إسرائيل على تسليحها أوكرانيا ولو بأسلحة دفاعية كما تدّعى إسرائيل، ويتكامل ذلك مع قيام روسيا لأول مرة بمنع الوكالة اليهودية من العمل على أراضيها اعتبارًا من الخامس من شهر يوليو الحالي. ولو صدق ما يتوقعه بعض المحللين عن أن إسرائيل ستغامر بضرب حزب الله فى لبنان فإن هذا قد يدفع روسيا لمزيد من دعم إيران عسكريًا فى سوريا حفاظًا على التوازن بين مختلف الفرقاء .على صعيد آخر فإن سَحْب روسيا تأييدها لاجتماعات اللجنة الدستورية التى تنعقد فى چنيف بين وفدّى النظام السورى ومعارضيه، له صلة بتخلى سويسرا عن سياسة الحياد التى تتبعها وانحيازها للموقف الغربى من حرب أوكرانيا، ومن هنا تسعى روسيا لإيجاد مسار بديل لمسار چنيف.أما فيما يتعلق بالعملية العسكرية فى شمال سوريا ضد قواعد حزب العمال الكردستانى والتى تتحدث عنها تركيا من شهور طويلة- فإنها تضع روسيا بين خيارين اثنين،فإما أن تتغاضى روسيا عن هذه العملية العسكرية إرضاءً لتركيا التى تمسك العصا من المنتصف فى الحرب الأوكرانية ولا تنساق وراء معاقبة روسيا، وكذلك إحراجًا للولايات المتحدة التى تقدّم نفسها باعتبارها حامية للأكراد مما يثبّت الفكرة الشائعة عنها بأنها حليف غير موثوق به كما اتضح فى اليمن والخليج وأفغانستان وها هى سوريا.وإما أن تحذّر تركيا من عواقب هذه العملية العسكرية التى تعارضها إيران صراحةً كما جاء مؤخرًا على لسان المرشد على خامنئى، وبالتالى تدعم الموقف الإيرانى فى مواجهتها خاصةً أن إيران تتفهّم دوافع روسيا فى أوكرانيا وهى مثلها تتعرّض للعقوبات الاقتصادية وإن تكن إيران أسبق عهدًا من روسيا بتلك العقوبات بسنين طويلة، هذا إضافة إلى أن تقدّم الجيش السورى فى الشمال بطلب من قوات سوريا الديمقراطية يضعه فى احتمال المواجهة مع الجيش التركى فى حال تم تنفيذ العملية العسكرية التركية، وهذا ما لا تحبذه روسيا وهى الداعم الكبير للنظام السورى والصديق لتركيا فى الوقت نفسه.إذن فإن الرسالة الأولى لقمة طهران هى أن روسيا مازالت تمارس دور صانع الألعاب فى سوريا وأنه حتى الآن على الأقل لم تضطر روسيا إلى تحجيم اهتمامها بسوريا للتفرغ لمستجدّات الحرب فى أوكرانيا، ولا أدّل على ذلك من أن أول زيارة خارجية يقوم بها الرئيس بوتين منذ اندلاع الحرب الأوكرانية كانت لطهران من أجل بحث تطورات الصراع فى سوريا،وهذا يعكس الأولوية التى يعطيها للملف السوري.
الرسالة الثانية هى أن ما وُصف بأنه تحالف ثلاث دول فى طهران فى مواجهة تحالف إحدى عشرة دولة فى جدة يحتاج إلى شىء من التدقيق، فما شهدناه لا يعبر عن تحالفات بل عن أطر مرنة تعترف بالقواسم المشتركة فى قضايا معينة بين الدول الداخلة فيها وتحترم الاختلافات القائمة بين مصالحها فى قضايا أخرى.هكذا رأينا فى جدّة اتفاقًا على وجود تهديد إيرانى للمنطقة، وتجاهلًا تامًا لفكرة الناتو الشرق أوسطى الذى كان بمثابة دعوة أمريكية-إسرائيلية لم يستجب لها طرف عربى واحد.وفى جدّة ومن قبل فى القدس تحدّث الكل عن حل الدولتين،لكن بتصورات مختلفة بل وبأفق زمنى مختلف وصولًا لقول الرئيس بايدن إنه مع حل الدولتين لكن ليس الآن وكأنه بعد قرابة ثلاثة أرباع القرن من الاحتلال الإسرائيلى مازال الوقت غير موات لقيام الدولة الفلسطينية.
وفى طهران رأينا اختلافات حول التفاصيل فى سوريا، واتفاقًا حول أهمية العودة للاتفاق النووى، وكذلك حول ضرورة تعزيز العلاقات الاقتصادية بين الأطراف.ثم إن الأطراف العربية فى جدّة لها علاقات متفاوتة مع روسيا ومع إيران وتركيا، وعلى الجانب الآخر فإن تركيا التى توثَق علاقاتها بإيران وروسيا إنما هى عضو فاعل ومؤثّر فى حلف شمال الأطلنطى، وهكذا توجد بين جدّة وطهران جسور كثيرة، وكان وصف ولى العهد السعودى الأمير محمد بن سلمان إيران بأنها جارة -شديد الدلالة وربما أيضًا شديد الوطأة على المسئولين فى تل أبيب.
الرسالة الثالثة والأخيرة هى أن قمة طهران جاءت لتؤكد أن الولايات المتحدة لم تعد هى القطب الأوحد لا على مستوى العالم ولا حتى على مستوى الشرق الأوسط، فهى وإن اكتشفَت أنها لن تستطيع الخروج من الشرق الأوسط كى لا تترك من ورائها فراغًا تملؤه الصين وروسيا وإيران، إلا أن اكتشافها جاء متأخرًا والفراغ الذى تحدّث عنه الرئيس بايدن أكثر من مرة هو فراغ قائم منذ سنين، وبالتالى فإن كل أطراف قمة طهران لهم مواقعهم المتقدمة فى العديد من الساحات الشرق أوسطية، وهذا هو حال الشرق الأوسط الجاذب للتدخلات والذى تثبُت أهميته فى رسم التوازنات الدولية ولو كان ذلك دون إرادة عمدية منه، وهذا هو موضوع مقال الأسبوع المقبل بإذن الله.
نقلا عن الأهرام