كشفت قمة جدة للأمن والتعاون، التى ضمت قادة دول مجلس التعاون الخليجى ومصر والأردن والعراق إلى جانب الرئيس الامريكى جو بايدن، عن موقف عربى موحد تجاه القضايا المختلفة التى ناقشتها القمة، طرحه القادة العرب المشاركون فى كلماتهم ومناقشاتهم، ولم يكونوا مجرد متلقين لما يريده رئيس أكبر دولة عظمى كما كان يحدث فى قمم مماثلة سابقة، الأمر الذى يعكس صحوة عربية مهمة فى العمل المشترك. وهو ما أكده وزير الخارجية السعودى فيصل بن فرحان فى مؤتمره الصحفى عقب القمة، بقوله إنه ظهر جليا نضوج منظومة العمل العربى المشترك فى هذه القمة، الدول العربية أصبحت الآن تتعامل مع ملفاتها وتضع أجندتها بنفسها، وتحاور الجميع من هذا المنطلق، وكلمات القادة أوضحت أننا نعرف ما نريد وكيف نحققه ولدينا طموحات كبيرة، وسمعنا هذا النهج فى كلمات القادة فى القمة، بأننا مسئولون لتوفير مسارات الازدهار لمجتمعاتنا وألا ننتظر أحدا ليحققه لنا، ونحاور العالم على هذا الأساس، فالدول العربية قامت بمبادرات استشعارا منها بأن مستقبلها فى يدها، والمساهمة فى وضع الأجندة العالمية حفاظا على مصالحها ومصالح شعوبها.
هذا الموقف جاء نتاجا لجهد كبير بذله قادة هذه المجموعة العربية خلال الفترة الأخيرة، بداية من (اتفاق العلا) فى يناير 2021 الذى أنهى الخلافات بين مصر والإمارات والسعودية والبحرين من جهة وقطر من جهة أخرى، والنجاح فى تنفيذ بنود الاتفاق ومواجهة العقبات التى أبطأت التنفيذ فى بعض الأحيان، وصولا إلى الاتصالات المكثفة للتنسيق والتشاور التى حرص عليها هؤلاء القادة خلال الأشهر الأخيرة لمواكبة المتغيرات الدولية والإقليمية المتسارعة التى أفرزتها الحرب الروسية الأوكرانية، سواء من خلال الجولات الخارجية مثل الزيارات التى قام بها الرئيس عبدالفتاح السيسى إلى الكويت والإمارات وسلطنة عمان والبحرين والأردن والسعودية، وزيارة أمير قطر الشيخ تميم بن حمد لمصر، وجولة الأمير محمد بن سلمان ولى العهد السعودى فى مصر والأردن، أو من خلال الاتصالات المستمرة بين قادة هذه الدول العربية. هذه المجموعة التى تضم مصر والأردن والعراق ودول الخليج تشكل الآن قاطرة العمل العربى المشترك، فى لحظة تاريخية مهمة تشهد إعادة ترتيب منطقة الشرق الأوسط، وسط متغيرات دولية وأزمات عالمية كثيرة، مع تراجع فى الوقت نفسه لدور الجامعة العربية فى مواجهة التحديات التى تضرب الأمن القومى العربى والأزمات التى تهدد وجود الدولة الوطنية فى بعض الأقطار العربية، نظرا لوجود 22 دولة عربية لكل منها مصالحها وتوجهاتها وتحالفاتها وأهدافها الخاصة، التى قد تتناقض مع بعضها البعض، مما أدى إلى ضعف مؤسسات العمل العربى حتى إن القمة العربية التى تمثل رأس هرم العمل العربى المشترك لم تنعقد منذ مارس 2019، وتأجلت اجتماعاتها خلال عامى 2020 و2021 والسبب المعلن كان أزمة كورونا، بينما يعلم الكثيرون أن أسبابا سياسية وخلافات بينية حالت دون انعقاد القمة العام الماضى ولو عبر الفيديو كونفرانس، مع استمرار الشكوك فى عقد القمة العربية هذا العام فى الجزائر نوفمبر المقبل كما هو مقرر، مما دعانا من قبل إلى المطالبة بإعادة ترتيب البيت العربي.
لذلك يكتسب الدور الذى تقوم به هذه المجموعة التى تشكل الآن قاطرة العمل العربى المشترك أهمية قصوى، ويعول عليها كثيرا خلال المرحلة المقبلة، خاصة مع تأكيد قادتها ـ فى البيان الختامى لقمة جدة ـ التزامهم بانعقاد اجتماعهم مجدداً فى المستقبل، وأمامها مهام متعددة لترجمة ما جاء فى هذا البيان من مواقف إلى واقع حقيقى يخرج بالمنطقة العربية من أزماتها الحالية، خاصة فيما يتعلق بمكافحة الإرهاب والتطرف العنيف، ومنع التمويل والتسليح والتجنيد للجماعات الإرهابية من جميع الأفراد والكيانات، والتصدى لجميع الأنشطة المهددة لأمن المنطقة واستقرارها، بما فى ذلك خروج المقاتلين الأجانب والمرتزقة من ليبيا وسرعة عقد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية هناك، والتوصل إلى حل سياسى للأزمة السورية، والمساعدة فى تحقيق الاستقرار فى السودان، وحماية الأمن المائى للدول العربية، وغيرها من التحديات المهمة. والقيام بهذا الدور يتطلب توفير الدعم الكامل لهذه المجموعة العربية والتى يتعرض بعضها لمصاعب اقتصادية والبعض الآخر لضغوط خارجية تؤثر على استقرارها، وهو أمر لن يتأتى إلا بزيادة التعاون والتكامل الإقليمى والمشاريع المشتركة بين دول هذه المجموعة، على غرار اتفاقيات الربط الكهربائى بين السعودية والعراق، وبين مجلس التعاون لدول الخليج العربية والعراق، وبين السعودية وكل من الأردن ومصر، والربط الكهربائى بين مصر والأردن والعراق، وهى الاتفاقيات التى أشادت بها قمة جدة للأمن والتعاون. لقد طرح الرئيس عبد الفتاح السيسى خمسة محاور للتحرك فى القضايا ذات الأولوية خلال المرحلة القادمة، تتلخص فى التوصل إلى تسوية عادلة وشاملة ونهائية للقضية الفلسطينية على أساس حل الدولتين، وبناء المجتمعات من الداخل على أسس الديمقراطية والمواطنة والمساواة واحترام حقوق الإنسان ونبذ الأيديولوجيات الطائفية والمتطرفة، وتعزيز الأمن القومى العربى، بتوفير الإطار المناسب للتصدى لأى مخاطر تحيق بعالمنا العربى، مع التشديد على مبادئ احترام سيادة الدول وعدم التدخل فى شئونها الداخلية، ومكافحة الإرهاب والفكر المتطرف بكل أشكاله وصوره، وتعزيز التعاون والتضامن الدوليين لرفع قدرات دول المنطقة فى التصدى للأزمات العالمية الكبرى والناشئة.
وهذه المحاور يمكن أن تشكل خطة عمل مهمة خلال المرحلة القادمة لدول قمة جدة، عربيا وإقليميا ودوليا، وتتطلب جهدا كبيرا ونوايا صادقة من الأطراف المعنية وامكانيات كبيرة، لكن النجاح فى تحقيقها بشكل تدريجى وفقا لمعطيات الأوضاع العالمية والإقليمية سينعكس بشكل ايجابى كبير على المنطقة العربية كلها، ويحقق آمالا طال انتظارها، ويسحق تهديدات استفحل خطرها.
نقلا عن الأهرام