تراجع تكتيكي:
كيف فسّرت المعارضة السودانية انسحاب الجيش من المفاوضات السياسية؟

تراجع تكتيكي:

كيف فسّرت المعارضة السودانية انسحاب الجيش من المفاوضات السياسية؟



في ظل استمرار الأزمة السياسية الراهنة في السودان، أصدر رئيس مجلس السيادة الانتقالي الفريق أول ركن “عبدالفتاح البرهان” قراراً، في 5 يوليو 2022، يقضي بإعفاء أعضاء مجلس السيادة المدنيين الخمسة (أبو القاسم محمد برطم، سلمى عبدالجبار المبارك، رجاء نيكولا عبدالمسيح، يوسف جاد كريم، عبدالباقي عبدالقادر)، والذين عينهم “البرهان” في 25 أكتوبر الماضي.

انسحاب الجيش

اكتسب قرار الفريق “عبدالفتاح البرهان” بإعفاء الأعضاء المدنيين في مجلس السيادة الانتقالي أهمية خاصة، نظراً لارتباطه ببعض التطورات السياسية الهامة التي شهدتها البلاد، خلال الأيام القليلة الماضية، ومن أهمها ما يلي:

1- الانسحاب من المفاوضات السياسية: جاء قرار إعفاء المدنيين الخمسة من مجلس السيادة الانتقالي عقب مرور يوم واحد فقط على إعلان الفريق “البرهان” انسحاب الجيش من المفاوضات السياسية التي تشرف عليها الآلية الثلاثية (الأمم المتحدة – الاتحاد الأفريقي – الإيجاد) وتبرير ذلك بأنه استجابة لمطالب إبعاد الجيش عن السلطة، وإتاحة الفرصة للقوى السياسية المدنية وعلى رأسها قوى الحرية والتغيير للانخراط في حوار وطني بغرض التوصل لتوافق شامل فيما بين الأحزاب والقوى السياسية وتشكيل حكومة تنفيذية من الكفاءات الوطنية لإدارة شؤون البلاد على كافة الأصعدة السياسية والاقتصادية والأمنية.

2- حل مجلس السيادة الانتقالي: ارتبط قرار إعفاء المدنيين الخمسة من عضوية المجلس السيادي الانتقالي بخطوة سابقة على اتجاه الفريق “البرهان” لحل مجلس السيادة وفقاً لما أعلنه في 4 يوليو الجاري، وهو بذلك قد استبق عملية حل المجلس، حيث أعلن أن حل المجلس سيتم بعد تشكيل القوى السياسية حكومة كفاءات وطنية، وحينئذ سيتم تشكيل مجلس أعلى للقوات المسلحة من العسكريين يتولى مهام الأمن والدفاع، على أن يتم تعيين المدنيين في مجلس السيادة للقوى السياسية؛ إلا أن الفريق “البرهان” أبقى على ممثلي الجماعات المسلحة الثلاثة (مالك عقار، الهادي إدريس، الطاهر حجر) التي وقعت على اتفاق جوبا النهائي للسلام في عضوية مجلس السيادة الانتقالي، وبرر ذلك بأنهم اكتسبوا عضوية المجلس وفقاً لما نص عليه اتفاق جوبا للسلام.

رفض قرارات البرهان

أثارت القرارات التي أعلن عنها رئيس مجلس السيادة الانتقالي الفريق “عبدالفتاح البرهان” مواقف القوى السياسية المدنية، وخاصة قوى الحرية والتغيير وحزب الأمة ولجان المقاومة وتجمع المهنيين السودانيين، والتي اتسمت في معظمها بالتعبير عن رفضها لهذه القرارات، وأرجعوا أسباب رفضهم إلى الآتي:

1- اعتبار القرارات تراجعاً تكتيكياً: حيث رأت قوى الحرية والتغيير وتجمع المهنيين السودانيين أن قرار الجيش بالانسحاب من الحوار الوطني الذي تشرف عليه الآلية الثلاثية، ما هو إلا إجراء تكتيكي يهدف إلى إفراغ المطالب الخاصة بعودة الجيش إلى ثكناته وتركه الحياة السياسية من مضمونه، وفي الوقت نفسه يهدف إلى احتواء المظاهرات والاحتجاجات الشعبية المتواصلة منذ 30 يونيو حتى الآن للمطالبة بإسقاط الانقلاب العسكري على السلطة، والمطالبة بتسليمها للقوى السياسية المدنية، وإجراء تحقيقات للكشف عن المتورطين في قتل المتظاهرين السلميين، ومواصلة إجراءات مكافحة الفساد في البلاد.

2- تدمير العملية السياسية: ترى القوى السياسية المعارضة لبقاء الجيش على رأس السلطة أن قرارات الفريق “البرهان” لا تخدم الأهداف الحقيقية للثورة الشعبية، ولا تعبر عن طموحات المتظاهرين الذين يرغبون في إجراء تغيير جذري في الحياة السياسية السودانية، على أن تكون أولى خطوات ذلك بترك المؤسسة العسكرية الحياة السياسية بشكل نهائي، وإتاحة المجال كاملاً أمام الأحزاب والقوى السياسية الفاعلة. وفي هذا الإطار، اتهمت قوى الحرية والتغيير الجيش بتدمير العملية السياسية في البلاد، بدءاً بالانقلاب على السلطة الانتقالية في 25 أكتوبر الماضي، ومواصلة استخدام العنف والقوة المفرطة ضد المتظاهرين لقمعهم.

3- شرعنة الانقلاب العسكري على السلطة الانتقالية: ترى قوى الحرية والتغيير أيضاً أن قرارات البرهان تهدف بشكل رئيسي إلى شرعنة الانقلاب العسكري على السلطة الانتقالية، وذلك من خلال إتاحة الفرصة للقوى السياسية المؤيدة للجيش بالمشاركة في الحوار مع باقي القوى السياسية المعارضة للجيش، وترشيح إحدى الشخصيات السياسية الموالية للجيش ليتولى رئاسة الحكومة التي سيتم تشكيلها، وبالتالي المساهمة في استمرار بقاء المؤسسة العسكرية في المشهد السياسي من خلال الاتصال برئيس الوزراء الجديد الموالي لها، وتلقينه التعليمات والقرارات التي تخدم مصالح الجيش فقط، خاصة وأن الفريق “البرهان” أرسل رسالة للآلية الثلاثية قبل إعلان هذه القرارات حدد خلالها مهام المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي سيتم تشكيله بعد حل مجلس السيادة الحالي، وخاصة فيما يتعلق بمسائل السياسة الخارجية والدفاع والأمن، وبالتالي سيكون المجلس الجديد فوق السلطة المدنية.

4- خلط الأوراق والتشكيك في جدية القوى السياسية: إذ رأت القوى السياسية المعارضة للجيش أن إعلان الجيش انسحابه من العملية السياسية يهدف إلى إيصال رسالة إلى الداخل والخارج بأنه لا توجد أطماع أو طموحات لدى الجيش بالبقاء على رأس السلطة، وذلك على عكس القوى السياسية المدنية التي تصر على إرباك المشهد السياسي بسبب مطامعها في السلطة، كما يهدف من ذلك إلى التأكيد على فكرة أن هناك قوى سياسية مؤيدة للجيش ومن ثم إتاحة الفرصة أمامها للوصول إلى السلطة، وهو ما سيؤدي إلى تصاعد الخلافات بينها وبين القوى السياسية المعارضة للجيش، وبالتالي إثبات صعوبة توصل القوى السياسية المدنية فيما بينها إلى توافق شامل، وأن ذلك هو السبب الرئيسي لامتداد أمد الأزمة السياسية في البلاد وليس بسبب الخلافات بين المكونين المدني والعسكري.

استمرار الاحتجاجات

تزامنت القرارات التي أعلن عنها الفريق “البرهان” مع استمرار حشد القوى السياسية المعارضة للجيش (قوى الحرية والتغيير – حزب الأمة – تجمع المهنيين السودانيين..) للمتظاهرين، ودعوتهم للاستمرار في التظاهر، والتهديد بتطوير التظاهر إلى الدخول في اعتصامات مفتوحة، وتنفيذ عصيان مدني شامل، لحين تحقيق أهداف الثورة، ومن أهمها ما يلي:

1- تسليم السلطة للقوى السياسية المدنية: تمثل المطلب الرئيسي لهذه المظاهرات والاحتجاجات الشعبية في مطالبة المواطنين والقوى السياسية التي قامت بالحشد والتعبئة لهذه المظاهرات وعلى رأسها المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير وحزب المؤتمر الشعبي وحزب الأمة وغيرها من الأحزاب السياسية المناهضة لما أطلقوا عليه الانقلاب العسكري على السلطة في 25 أكتوبر الماضي، وما دفعهم لمواصلة رفع هذا المطلب هو رفض المكون العسكري الاستجابة لمطالبهم بتسليم السلطة للقوى المدنية، وهو ما أكد عليه الفريق أول ركن “عبدالفتاح البرهان” قائد الجيش ورئيس مجلس السيادة الانتقالي خلال التصريحات التي أطلقها قبل انطلاق هذه المظاهرات، حيث أكد على أنه لن يتم تسليم السلطة للمدنيين إلا بعد توافق سياسي شامل أو إجراء انتخابات برلمانية، وليس عن طريق الاحتجاجات، وفي ذلك تأكيد قاطع على رفضه الاستجابة لمطالب المتظاهرين.

2- إبعاد الجيش عن الشأن السياسي: رفعت المظاهرات الشعبية مطلباً هاماً وهو إبعاد المؤسسة العسكرية عن الحياة السياسية بعد أن تقوم بتسليم السلطة للمدنيين، ويؤيد هذا المطلب عددٌ من الفاعلين الدوليين المنخرطين في الأزمة السودانية وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية التي أرسلت العديد من مسؤوليها للخرطوم خلال الفترة القادمة، وأصدرت عدداً من البيانات التي طالبت فيها قادة الجيش السوداني بالعودة إلى ثكناته وتسليم السلطة للقوى المدنية، بل وامتد الأمر إلى التلويح الأمريكي بإمكانية فرض عقوبات على من يثبت تورطه في عرقلة نقل السلطة للمدنيين وتجربة الحكم الانتقالي من قادة الجيش. ورغم إعلان “البرهان” الانسحاب من الحوار الوطني، فإن ذلك أدى إلى تزايد دعوات الاستمرار في التظاهر، بسبب انعدام الثقة في جدية هذا الانسحاب.

3- إجراء تحقيقات للكشف عن قتلة المتظاهرين: كما طالب المتظاهرون بمحاسبة المتورطين من قادة الجيش وقوات الدعم السريع في قتل المتظاهرين السلميين الذين سقطوا خلال الاحتجاجات التي اندلعت في البلاد للتعبير عن رفضهم للإجراءات التي اتخذها قائد الجيش الفريق “عبدالفتاح البرهان” في 25 أكتوبر الماضي، حيث بلغ عدد القتلى من المتظاهرين 112 شخصاً حتى الآن، وفق لجنة الأطباء المركزية السودانية، وهو ما دفع الكونجرس الأمريكي للموافقة على مشروع قرار يسمح للإدارة الأمريكية برئاسة “جو بايدن” بفرض عقوبات على قادة الجيش بسبب انتهاكات حقوق الإنسان والفساد، وعرقلتهم حريةَ التعبير والسماح للمواطنين بالتظاهر السلمي.

فرص متاحة

وفي ضوء استمرار الاحتجاجات الشعبية فإن هناك بعض الفرص المتاحة أمام نجاحها في تحقيق أهدافها، وإن كان على المدى المتوسط والبعيد، ومن أهمها ما يلي:

1- القدرة على تحريك الشارع: كشفت المظاهرات المتواصلة لليوم الرابع على التوالي وإعلان المشاركين فيها تنظيم اعتصام مفتوح لحين الاستجابة لمطالبهم، عن قدرة الأحزاب السياسية والقوى المدنية المنظمة لهذه المظاهرات على الحشد والتعبئة. فقد كشف حزب الأمة القومي عن نجاح هذه المظاهرات في استعادة الكتلة الجماهيرية الحرجة وتوحيد صفوفها وترجيح كفة الحراك المدني المقاوم للسلطات العسكرية في البلاد، وهو ما يمكن أن يسهم في استعادة السلطة وإنهاء الانقلاب العسكري عليها.

2- التأييد الدولي لمطالب المتظاهرين: يمثل الدعم الدولي للمطالب المرفوعة خلال هذه المظاهرات وعلى رأسها تسليم السلطة للمدنيين فرصة أمام تحقيق هذه المطالب، وذلك من خلال الضغوط التي تواصل القوى الدولية فرضها على قادة الجيش السوداني، والتهديد بإمكانية فرض عقوبات عليهم، وقد ظهرت هذه المواقف في البيانات الصادرة عن سفارات الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وكندا والنرويج وسويسرا واليابان، وكذلك الأمم المتحدة، والتي أعربوا فيها عن قلقهم الشديد إزاء مواصلة السلطات الأمنية استخدام القوى المفرطة والذخيرة الحية ضد المتظاهرين السلميين. وتماشت هذه المواقف مع موقف “فولكر بيريتس” رئيس بعثة “يونيتامس” في السودان والذي حذر فيه السلطات الأمنية من استخدام القوة المفرطة ضد المتظاهرين، وهو ما أثار حفيظة الجيش وبعض القوى السياسية المؤيدة له وعلى رأسها حزب المؤتمر الوطني “المنحل” الذي أصدر بياناً انتقد فيه دور البعثة وطالب بطردها ورئيسها بسبب عدم امتلاكهم حلاً فاعلاً للأزمة السياسية الراهنة في البلاد.

3- المناورات التكتيكية للمؤسسة العسكرية: فرغم قرارات البرهان بالانسحاب من المفاوضات السياسية وحل مجلس السيادة وتشكيل مجلس أعلى للقوات المسلحة، فإن المتظاهرين اعتبروها محاولة غير صادقة من الجيش لتسوية الأزمة السياسية الراهنة، وبالتالي مواصلة التظاهر، وقد يتكرر سيناريو عزل الرئيس السابق “البشير” مع الفريق “البرهان” الذي يؤكد على عدم إداركه للقوة الحقيقية للشارع السوداني، وربما تسفر التطورات الحالية عن إسقاط النظام السياسي الانتقالي الحالي.

عقبات قائمة

وفي مقابل الحديث عن الفرص المتاحة أمام نجاح المظاهرات في تحقيق أهدافها، فإن هناك بعض العقبات التي تحول دون ذلك، ومن أبرزها ما يلي:

1- معضلة التوافق الشامل أو الانتخابات: تواجه عملية تحقيق أهداف التظاهرات إشكالية التوصل لتوافق سياسي شامل بين القوى السياسية المدنية، في ظل اختلاف توجهاتها وأيديولوجياتها السياسية، فهناك قوى التوافق الوطني المؤيدة للجيش، في مواجهة تحالف قوى الحرية والتغيير وحزب الأمة وتجمع المهنيين السودانيين، وهو ما يتطلع إليه الجيش السوداني الآن والمجتمع الدولي بأسره بشأن مدى قدرة هذه القوى السياسية على تحقيق توافق سياسي فيما بينها خلال الفترة القادمة.

2- تأثير قوى الثورة المضادة، وذلكفي ظل حشد قوى الحرية والتغيير للمظاهرات والاحتجاجات الشعبية الرافضة للانقلاب العسكري على السلطة، فإن أنصار النظام السابق وعلى رأسهم حزب المؤتمر الوطني “المنحل” والحركة الإسلامية الذين يعملون على عرقلة المرحلة الانتقالية وتشويه صورة قوى الحرية والتغيير عبر شن حملات إعلامية واتهام القوى السياسية التي تشاركت السلطة مع المكون العسكري في مرحلة ما قبل 25 أكتوبر بانفرادها بالحكم وفشلها في إدارة شؤون البلاد، والترويج لفكرة غياب أحزاب وقوى سياسية تتسم بالقدرة على حل الأزمة السياسية الراهنة وأن حزب المؤتمر الوطني “المنحل” هو الأقدر على ذلك.