تدخلت قوات الجيش الوطني الليبي، حسب تقارير محلية ليبية في 27 يونيو الجاري، لمنع انعقاد مؤتمر في إقليم فزان جنوب البلاد، بعد أن أعلنت مجموعة موالية لسيف الإسلام القذافي نيتها تشكيل “حكومة إقليمية”، ودعت الموالين لها في الجيش إلى الانشقاق عنه في مسعى لتكوين قوة أمنية مستقلة. ويمثل هذا التطور متغيراً في الإقليم الجنوبي الذي يعاني إشكاليات أمنية عديدة، ليتحول إلى محور للصراع السياسي بدعوى الإهمال والتجاهل الحكومي.
يمثل ظهور دعوات انفصالية في ليبيا، على غرار الدعوة التي أشارت تقارير محلية ليبية إلى أن مجموعة موالية لسيف الإسلام القذافي أطلقتها، حالة طارئة، بل ربما تم تصويرها كحالة انفصالية في ظل الصراع السياسي القائم، في محاولة لتحميل تيار النظام السابق المسئولية عن هذا الأمر لإقصائه عن المشهد السياسي القادم، في حين أن هذا التيار لا يتبنى أيديولوجياً مثل هذه النزعة، بل يعد نفسه تياراً قومياً عروبياً. إلا أن ذلك لا ينفي -وفق مراقبين- وجود رغبة في محاصصة سياسية كرّس لها اتفاق جنيف من خلال المناصب السياسية في السلطة. وربما تكون ورقة ضغط من التيار أيضاً لمقاومة محاولة إقصائه من جانب منافسيه. كما لا ينفي ذلك وجود إرهاصات انفصالية من أطراف أخرى لكنها أقل تأثيراً مثل الأمازيغ الذين يتم التعامل معهم كأقلية، فضلاً عن أن بعض القوى السياسية تؤجج هذه النزعة بدعوى الاستقطاب السياسي على نحو ما فعلت حكومة الوحدة، على سبيل المثال، في الاحتفاء بالمناسبات الأمازيغية الخاصة بمزاعم دعم الخصوصية الثقافية.
سياق إقليمي
حالة الجنوب الليبي، على هذا النحو، ربما تشبه الكثير من الحالات في دول الصراعات والأزمات، من حيث النزعة الانفصالية التي تنامت خلال موجة الصراعات والأزمات التي تلت ما عرف بـ”الربيع العربي”، رغم اختلاف ظروف كل حالة بالنظر إلى خلفياتها التاريخية، وطبيعة التفاعلات السياسية الحالية الخاصة بكل منها.
ففي اليمن، على سبيل المثال، تصاعدت الدعوات الانفصالية للجنوب بدعوى أنه كان دولة قبل الوحدة، لتوقظ الفوضى التي شهدتها البلاد بعد عام 2011 على خلفية التهميش الذي عاشه الجنوب خلال حقبة الوحدة.
وفي العراق، قد تكون حالة إقليم كردستان أكثر تطوراً، فالإقليم يحظى بالحكم الذاتي منذ عقود، لكن بعد سقوط النظام العراقي عام 2003 والفوضى التي عاشتها البلاد في مراحل مختلفة من الغزو الأمريكي، إلى الصراع الطائفي، ثم تصاعد ظاهرة التطرف والإرهاب، والتمزق السياسي؛ تنامت الدعوات الانفصالية بشكل رسمي، وبالفعل أُجري استفتاء على انفصال إقليم كردستان في سبتمبر 2017، وعكست نتيجة الاستفتاء رغبة 93% من المشاركين في الانفصال، ورغم ذلك لم يتم تنفيذه، وعادت الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل الاستفتاء.
عقبات عديدة
مع ذلك، فإن هناك عقبات تحول دون تحقيق مشروعات “الأقاليم الانفصالية”، البعض منها يمثل قواسم مشتركة في معظم الحالات، والبعض الآخر يشكل سمة خاصة بكل منها، ويتمثل أبرزها في:
1- غياب التأييد الدولي للنزعة الانفصالية: تؤكد الأمم المتحدة في قراراتها الخاصة بدول الصراعات والأزمات على الحفاظ على وحدة الدول، ورفض أي محاولات لتقسيمها، وهو ما يظهر في كافة التقارير والبيانات الصادرة عن الأمم المتحدة ومجلس الأمن في تلك الحالات، الأمر الذي يكشف عن صعوبة الاعتراف بأيٍ من تلك الأقاليم إذا ما قررت الانفصال، وذلك على عكس بعض التوجهات الأممية الأخرى في بعض الحالات على غرار ما جرى في حالة السودان الذي انقسم لدولتين في عام 2011.
2- التدخل لمنع إجراءات التنفيذ: في الحالة العراقية، عارضت كل من إيران وتركيا عملية انفصال إقليم كردستان، بالنظر لتداعيات الانفصال على دعم المشروع الكردي في الدولتين، باعتباره خطوة تمهد لإقامة ما يُعرف بـ”الحلم الكردي” لإنشاء دولة الأكراد. وكذلك في الحالة اليمنية، تقاوم العديد من القوى الإقليمية النزعة الانفصالية في الجنوب، وهو ما ظهر في موقف قيادة التحالف العربي لدعم الشرعية في اتفاق الرياض عام 2019 لاحتواء النزاع المسلح ما بين المجلس الانتقالي الجنوبي والحكومة الشرعية بقيادة الرئيس السابق عبد ربه منصور هادي. كما أكدت على مسار احتواء تلك النزعة الانفصالية في مؤتمر الرياض في أبريل 2022 مع تشكيل مجلس القيادة الرئاسي. وفي الحالة الليبية، تدخل المجلس الرئاسي لرفض محاولات إيطالية لاستضافة مؤتمر لإقليم فزان، كما انتقد خطوة هولندية لمنح إقليم الجنوب تأشيرات خاصة في القسم القنصلي لإقليم فزان فقط.
3- تباين الحسابات الداخلية إزاء المبادرات المطروحة: لا يقتصر الأمر على الدور الخارجي، حيث تبرز قوى محلية رافضة لعملية انفصال تلك الأقاليم. ففي اليمن، لا ينفرد المجلس الانتقالي بالجنوب، وترى أطراف مناوئة له أن الانفصال سيفرض عملية تفتيت الجنوب اليمني. فعلى سبيل المثال، يرى مؤتمر حضرموت الجامع أنه في حال انفصال الجنوب فإنه سيقرر مصيره بعيداً عن عدن، أو سيبقى تحت راية الحكومة الشرعية.
4- التنافس بين المكونات السياسية: ما زال التنافس يمثل سمة رئيسية في العلاقات بين المكونات الكردية العراقية، ولا سيما بين السليمانية وأربيل، فحتى وإن اتفقا على المشروع الانفصالي، فإن وجود منافسة بينهما تضعف هذا المشروع. ويتكرر الأمر في الحالة الليبية، حيث يضعف أي محاولة انفصالية وجود مكونات عديدة في ظل التنوع الديمغرافي، بالإضافة إلى العمل على إخراج بعض الجماعات المسلحة المتمردة من دول الجوار، وكان آخرها إعلان 7 مجموعات سودانية تتواجد في جنوب ليبيا العودة إلى السودان، بالتوازي مع إطلاق الجيش الوطني عمليات عسكرية من وقت لآخر لاستهداف المجموعات الإرهابية، وبالتالي فإن التحسن الأمني قد يشكل خطوة مهمة لاحتواء مثل تلك المحاولات.
ارتدادات الفوضى
ختاماً، من المتصور أن النزعات الانفصالية لبعض الأقاليم داخل الدول المأزومة، وجدت صدى وتنامت في ظل هشاشة الدولة الوطنية، مع اندلاع الحروب الأهلية وتعمق حالة التمزق السياسي، وانهيار أو ضعف الجيوش الوطنية التي لعبت دوراً مركزياً في السابق في الحفاظ على وحدة الدول، بالإضافة إلى إرث التهميش الذي مارسته بعض النظم السياسية. لكن في المقابل، برغم تضافر بعض العوامل الداخلية والخارجية التي تقاوم هذه النزعات، ولا يعتقد أن أياً منها قابل للانفصال، وبالتالي لا يحتمل معها ظهور دول جديدة في الإقليم؛ إلا أن بعض المؤشرات والتفاعلات ربما ستساهم في تنامي ظهور الأقاليم الداخلية، التي يمكن أن تحظى بوضع إداري خاص، وربما بروز أنماط مختلفة في الإدارة السياسية والاقتصادية والأمنية.
كذلك لا يعتقد أن الحالة اليمنية أو الليبية مرشحة لكي تأخذ مسار “الحكم الذاتي” على غرار مسار كردستان العراق، لكنها أقرب إلى بلورة حالة اللا مركزية، على نحو ما ورد في الحوار الوطني اليمني في عام 2011 الذي كرّس لوضع الأقاليم. وكذلك في الحالة الليبية، كانت هناك إشارات واضحة من حكومة الوحدة الوطنية المنتهية ولايتها لتعزيز فكرة اللا مركزية الإدارية. لكن أيضاً ترقى هذه الحالات في المستقبل إلى النموذج الفيدرالي، كما أن حالة اللا مركزية هي الأخرى ستبقى نموذجاً ضعيفاً، وتحتاج إلى تراكم طويل المدى بالنظر إلى الممارسات السياسية ونقص الخبرة في تلك الحالات، فالممارسات تكشف عن تنامي اتجاه المحاصصة السياسية والاستقطاب السياسي، وتوظف دعائياً على أنها تعزيز لحالة اللا مركزية الإدارية لمعالجة الإشكاليات المزمنة في تلك الأقاليم.