عسكرة الشرق الأوسط: – الحائط العربي
عسكرة الشرق الأوسط:

عسكرة الشرق الأوسط:



على نحو لافت فى مدى زمنى ضيق جرت اتصالات ومشاورات عديدة فيما يشبه الحراك السياسى الإقليمى.
حاولت أطرافه على اختلاف مواقعها أن تستبين بقدر ما هو ممكن مواضع الأقدام قبل زيارة الرئيس الأمريكى «جو بايدن» المرتقبة إلى الشرق الأوسط.
كان ذلك الحراك الإقليمى تعبيرا عن ارتفاع منسوب القلق عند أطراف عربية عديدة مما قد يدعو إليه الرئيس الأمريكى فى قمة جدة المقرر أن تضمه منتصف الشهر المقبل إلى قادة دول مجلس التعاون الخليجى ومصر والأردن والعراق.
فيما هو مؤكد فإن أزمة النفط موضوعه الرئيسى خشية أن تفضى تداعياتها إلى تفكيك التحالف الغربى عند ذروة الصراع فى الحرب الأوكرانية.
النفط أولا وثانيا.. وعاشرا.
هناك الآن ضغوط أمريكية جارية على السعودية لزيادة صادراتها النفطية لتعويض النفط الروسى والرياض تمانع خشية إلغاء تفاهمات «أوبك بلس» وخسارة أوزانها القيادية فى سوق النفط الدولى.
الخليج كله مستهدف بالضغط باعتبار أن قدرته على الممانعة بالرفض غير ممكنة، لكنه إذا ما توحدت مواقفه يقدر على تخفيض كلفة الابتزاز السياسى والأمنى.
يلفت الانتباه فى اللحظة نفسها تطوران رئيسيان، الأول، العودة إلى مفاوضات إحياء الاتفاق النووى الإيرانى بعد توقف امتد شهورا لـ«مباحثات فيينا».
أشباح أزمة النفط، التى تؤرق الغرب بقسوة، دعت الاتحاد الأوروبى إلى التوسط لإعادة المفاوضات المجمدة.
إذا ما رفعت العقوبات عن إيران فإن مخزونها النفطى يساعد إلى حد كبير على التخفيف من الأزمة الضاغطة.
والثانى، فتح الأبواب الموصدة فى وجه فنزويلا بإرسال وفود أمريكية إلى كاراكاس تبحث فى مقايضات اقتصادية وسياسية عنوانها: النفط مقابل رفع الحصار المفروض على ذلك البلد اللاتينى الثرى بنفطه الذى يعانى شعبه من تبعات الحصار عليه.
من زاوية موضوعية فإن إيران وفنزويلا والسعودية فى موضع قوة نسبية.
إيران اقتنصت اللحظة النفطية القلقة وأبدت استعدادا فوريا للعودة إلى المفاوضات غير المباشرة مع الولايات المتحدة فى العاصمة القطرية الدوحة دون أن تخشى من تنازلات جوهرية عما تعتقده حقا أصيلا لها.
وفنزويلا لم تتردد بدورها فى عقد الصفقة المقترحة، التى تمكن رئيسها «نيكولاس مادورو» من النهضة ببلاده وتحسين مستويات المعيشة فيها وتأكيد أدوارها فى حسابات المصالح والقوة داخل القارة.
هكذا فإن السعودية ليست مدعوة لتقديم أية تنازلات استراتيجية قد تطرح عليها فى قمة جدة وأخطرها: الاعتراف بإسرائيل وتطبيع العلاقات معها دون أدنى مقابل على نسق «الاتفاقيات الإبراهيمية» والانخراط بالوقت نفسه فى تحالف عسكرى يضمها إلى دول عربية أخرى تقوده رمزيا الولايات المتحدة وفعليا إسرائيل.
إذا ما نظرنا فى صلب زيارة «بايدن» فإن النفط قضيته الرئيسية والحلف العسكرى مقحم على جدول الأعمال بضغط إسرائيلى فى سعى لعسكرة الشرق الأوسط واقتناص اللحظة الأمريكية المضطربة فى الحرب الأوكرانية خشية أن تكسبها موسكو فى نهاية المطاف.
المعضلة الأمريكية هنا: الحلف العسكرى ضد إيران يناقض التسوية الممكنة معها.
فكرة الحرب فى الشرق الأوسط عبء على الاستراتيجية الأمريكية المنهكة فى الصراع المزدوج مع اللاعبين الروسى والصينى، لا تحبذ الحلف العسكرى لكنها تماشى الكلام الإسرائيلى لعله يساعد فى دفع إيران لتقديم تنازلات بأية مفاوضات مقبلة تتجاوز الاتفاق النووى إلى الترتيبات الإقليمية التى تلحقه.
يدرك الإسرائيليون أن مشروع الحلف العسكرى يكاد يكون مستحيلا الآن، لكنهم يلحون عليه مرة بعد أخرى بهدف الاعتياد على منطقه وأسبابه، كأنها فكرة مشروعة وطبيعية يحتاجها الشرق الأوسط فعلا!
بالتزامن جرى تأكيد إسرائيلى على مشروع «منتدى النقب»، الذى ترأس فيه وزير خارجيتها وزراء خارجية عرب ممن لهم اتفاقيات سلام معها!
أرادت أن تقول إنه مستمر، وأنها تترأسه حتى انتخاب رئيس جديد، وأن جدول أعماله يمتد من التعاون الإقليمى إلى بناء منظومة عسكرية مشتركة.
كانت تلك رسالة ملغمة وجدت فى البحرين منصة إعلانها قبل أيام من زيارة «بايدن».
مستوى التمثيل متواضع والكلام عمومى، لكنه يعكس إرادة المضى فى سيناريو عسكرة الشرق الأوسط إلى آخر مداه.
أرجو أن نتذكر أنه عقب العودة من النقب صرح وزير الخارجية المصرى «سامح شكرى»: «لن نكون طرفا فى أى تحالف عسكرى».
إذا ما صحت التسريبات المتواترة عن أن السعودية تنتهج الموقف نفسه تتأكد أهمية حاجة البلدين إلى بعضهما لصد ما لا يصح التورط فيه بالضغوط أو الاندفاع إليه بالحسابات الخاطئة.
بصورة أو أخرى يماشى الخليج الكلام الإسرائيلى بنصف قلب خشية العواقب الوخيمة.
لا هو مطمئن إلى الجار الإيرانى ولا هو واثق أن إسرائيل قادرة على حمايته.
كان الهدف الرئيسى من جولة ولى العهد السعودى «محمد بن سلمان» فى مصر والأردن وتركيا استكشاف حقيقة المواقف مما قد يطرح فى زيارة «بايدن» وإلى أى حد يمكن لبلاده أن تعول عليها.
بالحساب السعودى فإن خطوتى التطبيع المجانى والانخراط فى التحالف العسكرى مع إسرائيل يسحب عنها أى أدوار مؤثرة تتطلع إليها فى العالم العربى.
إذا ما انخرطت فى الحلف العسكرى فهو إعلان حرب لا تريدها مع إيران.
الاشتباك السياسى غير المواجهة العسكرية.
هناك الآن سعى سعودى إيرانى مشترك عبر الوسيط العراقى للتوصل إلى تسوية سياسية للأزمات المتفاقمة بين البلدين، باليمن خصوصا.
النتائج معلقة إلى حين إحياء الاتفاق النووى مع إيران.
إنه خيار التفاوض لا الحرب.
دول أخرى فى الخليج اندفعت فى تيار التطبيع إلى حدود غير متخيلة وجدت نفسها مدعوة لتأمين أراضيها ومستقبلها بفتح قنوات اتصال معلنة مع إيران أكدت فيها أنها لن تسمح باستخدام أراضيها فى أى أعمال عدائية.
رغم تلك الموانع المتحفظة على مشروع عسكرة الشرق الأوسط لا تكف إسرائيل عن المضى فيه.
بتوقيت مقارب شاركت لأول مرة فى مناورات «الأسد الإفريقى» تحت قيادة أمريكية وبمشاركة دولتين عربيتين فى الشمال الإفريقى تونس والمغرب التى جرت المناورات على أراضيها.
فى تلك المناورات بدت تونس «فريسة» جرى اصطيادها رغما عن إرادة شعبها بأثر أزماتها السياسية والاقتصادية التى توشك على الانفجار.
لماذا تشارك إسرائيل فى مثل تلك المناورات وهى ليست دولة إفريقية؟!
الإجابة الأكثر تماسكا: إحكام الحصار على القضية الفلسطينية وحجب أى دعم إفريقى منتظر لها، وحصار الجزائر التى منعت اعتماد عضويتها فى الاتحاد الإفريقى كمراقب.
بالتوقيت نفسه جرت مناورات إسرائيلية فى قبرص استعدادا وتأهبا لأى مواجهة محتملة مع إيران، أو حزب الله فى لبنان.
هذه كلها رسائل ملغمة لدولة تطلب بالقوة قيادة العالم العربى وإنهاء القضية الفلسطينية إلى الأبد.
المفارقة الكبرى إنها فى أضعف حالاتها، حكوماتها مأزومة وهواجس أمنها تطاردها وصورتها تقوضت فى العالم بأثر سياسات الفصل العنصرى بفلسطين المحتلة غير أن الضعف العربى المفرط يغريها باستعراض عضلاتها عليه.
بقوة الحقائق لا يمكن تجاوز القضية الفلسطينية، وأى تجاوز من هذا النوع عواقبه وخيمة على من يتورط فيه.

نقلا عن الشروق