تمثل الزيارة المرتقبة التى سيقوم بها الرئيس الأمريكى للمملكة العربية السعودية عودة أمريكية للواقعية السياسية بعد أن رفع الأمريكيون رايات التحيز الأيديولوجى لعدة سنوات. قيام الرئيس بايدن بزيارة الرياض ولقاوه فيها عددا كبيرا من قادة المنطقة تعكس تغيرا مهما فى السياسة الأمريكية، فهل يؤذن هذا التحول بعودة العلاقات بين أمريكا والشرق الأوسط إلى سابق عهدها؟
أحد أهم المشكلات التى تواجه أهل المنطقة فى علاقتهم بالولايات المتحدة هو التقلب الذى أصبح مميزا للسياسة الأمريكية فى الشرق الأوسط منذ مطلع الألفية. فحتى ذلك الوقت التزمت الولايات المتحدة، ولأكثر من نصف قرن، بأمن دول الشرق الأوسط الحليفة، فى إطار علاقة متوازنة قوامها مبادلة النفط بالأمن، بحيث تلتزم الدول المنتجة للنفط بضمان تدفق هذه السلعة الاستراتيحية بكميات وأسعار مناسبة، مقابل تعهد الولايات المتحدة بضمان أمن هذه الدول ضد التهديدات الكثيرة فى إقليم مضطرب.حظيت هذه السياسة بإجماع أمريكى، واتفق الأمريكيون من الديمقراطيين والجمهوريين على أهميتها للولايات المتحدة، بغض النظر عن تبايناتهم الأيديولوجية.
تم وضع أسس هذه العلاقة فى أثناء الحرب الباردة، وواصل الأمريكيون الالتزام بها لعقد كامل بعد انتهائها، بعدها بدأت الولايات المتحدة فى التصرف بطريقة انفرادية، أيديولوجية، فيها الكثير من الانفعالية والتأثر بدوافع أيديولوجية وشخصية. بدأ التحول عقب هجمات الإرهاب فى الحادى عشر من سبتمبر، حينما ورطت الولايات المتحدة نفسها فى مغامرات عسكرية غير ضرورية فى أفغانستان والعراق، فى محاولة منها لاستخدام القوة العسكرية لتحويل البلدين إلى ديمقراطيات ليبرالية، يتم توظيفها كنماذج يجرى تعميمها فى دول المنطقة.
فشلت الحرب الأمريكية فى أفغانستان والعراق، ولم تفلح الولايات المتحدة فى إقامة أى نظام حكم فعال ومستقر، ديمقراطى أو سلطوى، فى أى من البلدين. تبدل الحماس والإقبال الأمريكى على الانغماس فى شئون المنطقة إلى يأس من الشرق الأوسط، وبدا الأمريكيون كما لو كانوا يحملون أهل المنطقة مسئولية الإخفاق الأمريكى فيها. شرع الأمريكيون فى الانسحاب من العراق وأفغانستان. حدث هذا فى وقت انتقلت فيه الولايات المتحدة من استيراد النفط إلى تصديره، بينما كان العالم يحاول الحد من الاعتماد على النفط لمصلحة مصادر الطاقة النظيفة، بحيث بدا نفط الشرق الأوسط وكأنه ليس فقط متراجع الأهمية، لكن أيضا سلعة موصومة بالمسئولية عن تلوث البيئة وتغير المناخ.
لم يعد الأمريكيون مهتمين بنفس القدر بأمن منتجى النفط فى الشرق الأوسط، ولم يعودوا متحمسين لمواصلة الوفاء بالتزاماتهم الدفاعية القديمة تجاه شركائهم فى المنطقة. حدث هذا فى وقت زاد فيه نفوذ تيارات يسارية راديكالية فى الحزب الديمقراطى، وهى تيارات شديدة التمسك بسلامة البيئة وحقوق الإنسان، وبالنسبة لهذه التيارات فإن منتجى النفط فى منطقتنا يمثلون كل شىء ترفضه هذه التيارات، بما فى ذلك الثراء والنفط ونظم الحكم المحافظة.
كان يمكن للأمور مواصلة التقدم فى هذا المسار، بحيث تواصل الولايات المتحدة التخفف من وجودها العسكرى فى المنطقة، ومن التزامها بأمن شركائها، لولا الغزو الروسى لأوكرانيا، الذى أعاد النفط إلى صدارة الاهتمامات الدولية. حدث هذا فى الوقت الذى تعثرت فيه المفاوضات حول البرنامج النووى الإيرانى، فبدا التهديد الإيرانى أكثر خطورة وجدية مما بدا عليه قبل شهور قليلة.
فى ظل هذه التحولات دارت السياسة الأمريكية دورة كاملة، وعادت الولايات المتحدة لإظهار الاهتمام بالمنطقة، نفطا وأمنا، وابتلع الرئيس بايدن تصريحاته العدائية المتعالية تجاه دول وقادة المنطقة، وتم الإعلان عن زيارة مرتقبة للسعودية فى منتصف يوليو المقبل.
انسحاب أمريكا من الشرق الأوسط يثير التحديات، وعودتها إليها، هى أيضا، تثير التحديات. عندما قررت الولايات المتحدة الانسحاب من الشرق الأوسط فوجئت دول عربية بأن الغطاء الأمنى الذى كانت تعتمد عليه لم يعد موجودا. اختفاء الغطاء الأمنى الأمريكى لم يحدث بشكل مرتب متفق عليه، لكنه حدث بقرار أمريكى منفرد، اكتفشته الدول العربية عندما تعرضت منشآت نفطية ومصالح اقتصادية فى السعودية والإمارات خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة لهجمات نفذتها أذرع تابعة لإيران، دون رد أمريكى.
كان على الدول العربية أن تبحث عن شراكات جديدة تعوض بها التخفف الأمريكى، فتحركت دول المنطقة شرقا فى اتجاه روسيا والصين، ونسجت معها شبكة علاقات ومصالح معقدة فى مجالات إنتاج وتصدير النفط والتسلح والتجارة والاستثمار، أملا فى تعويض التغير فى الدور الأمريكى، وهو ما تريد الولايات المتحدة من الدول العربية التراجع عنه. الولايات المتحدة العائدة إلى الواقعية فى الشرق الأوسط تريد من الدول العربية فصم علاقات التعاون مع روسيا، والمساهمة فى فرض العزلة عليها، وتريد منها أيضا الخروج من اتفاقات تنظيم صادرات النفط التى عقدتها معها، وذلك بغرض زيادة إنتاج النفط وتخفيض أسعاره لتخفيف الضغط عن الأسواق والاقتصادات العالمية.
تمثل عودة الولايات المتحدة للتعامل بواقعية مع المنطقة فرصة لابد من استثمارها، وسوف يكون على الدول العربية الاستجابة لمطالب أمريكية لإنجاح التحول الحادث فى سياسة واشنطن. لكن فى نفس الوقت، فإن الولايات المتحدة لم تعد تتمتع بالثقة العربية التى تمتعت بها فى عقود سابقة، فى حين يتزايد فى داخلها نفوذ تيارات أيديولوجية تزدرى النخب والحكومات العربية، الأمر الذى يفرض على العرب تجنب الاندفاع فى الاستجابة للمطالب الأمريكية، والإبقاء على قدر مناسب من علاقات التعاون مع روسيا، وأيضا الصين، تجنبا لوضع البيض كله فى سلة السياسة الأمريكية المثقوبة سريعة التقلب.
نقلا عن الأهرام