على نحو ما كان متوقعاً، فرضت الحرب الروسية-الأوكرانية ارتدادات مباشرة على مناطق التواجد العسكري والنفوذ الروسي في الشرق الأوسط، خاصة مع بروز مؤشرات عديدة توحي بأن هذه الحرب التي دخلت شهرها الرابع لن تشهد نهاية قريبة. وقد مثّل ذلك أحد المتغيرات التي بدأت تنعكس على مستوى وأنماط التفاعلات التي تجري بين العديد من القوى الإقليمية والدولية المعنية بما يحدث من تطورات سياسية وأمنية في الملفات الإقليمية الرئيسية بالمنطقة، وفي مقدمتها الملفان السوري والليبي.
تحركات مستمرة
خلال الفترة ما بين عام 2015 حيث بدأ الانخراط الروسي في الحرب السورية، وعام 2018 حيث بدأت اتفاقيات مناطق خفض التصعيد، نشرت روسيا قرابة 63 ألف جندي في سوريا، بينما أعلن، قبيل منتصف الشهر الماضي، أن روسيا بدأت في إخراج عديد من هذه القوات لإسناد عملياتها العسكرية في أوكرانيا. وكرد فعل، أعلنت تركيا عن عملية عسكرية جديدة في كل من منبج وتل رفعت في سوريا في سياق مشروعها لإقامة منطقة آمنة بحدود 30 كلم في العمق السوري، بينما أشارت تقارير إلى أن قوات الحرس الثوري الإيراني وحزب الله اللبناني تتسلمان مواقع أخلتها روسيا بالفعل.
وعلى الساحة الليبية، تَمَثّل الحضور الروسي في وجود عناصر مجموعة “فاجنر”، وهى قوة عسكرية غير رسمية تتم الاستعانة بها في الحالات التي يكون لدى روسيا فيها اتفاق رسمي مع الحكومة، في حين أبرمت تركيا اتفاقاً مماثلاً جرى توقيعه في عهد حكومة الوفاق السابقة قبل الاتفاق السياسي الحالي للمرحلة الانتقالية في ليبيا والذي أعقب التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار في أكتوبر 2020، ولا يزال سارياً، حيث تواصل تركيا تدريب قوات ليبية تابعة لرئاسة أركان غرب ليبيا، كما تشارك تلك القوات حالياً في مناورات تركية تجري في أزمير، يحضرها رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة ورئيس الأركان محمد الحداد، فيما يبدو أن حكومة الوحدة، التي تؤكد على أنها لن تسلم السلطة قبل وصول حكومة أخرى منتخبة، تسعى إلى تعزيز علاقاتها العسكرية مع تركيا. بينما صرح وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف، بعد لقاءه مع نظيره التركي مولود تشاويش أوغلو في أنقرة في 8 يونيو الجاري، بأن موسكو وأنقرة تتعاملان في ليبيا على أساس قاعدة “الصديق – الشريك”.
ترتيبات متعددة
في ضوء ذلك، يمكن القول إن تطورات الحرب الروسية-الأوكرانية فرضت في النهاية ترتيبات متعددة داخل كل من سوريا وليبيا، يمكن تناولها على النحو التالي:
1- توسيع نطاق المواجهات الإيرانية-الإسرائيلية: تشير أغلب التقديرات الغربية التي تستند إلى صور جوية لحالة الانتشار في سوريا، إلى انتشار قوات الحرس الثوري الإيراني وحزب الله اللبناني في سوريا –كما سلفت الإشارة- وأنها بالفعل تسلمت مواقع من الإدارة الروسية، وبالتالي قد تكون عملية تسليم المواقع تجري في إطار ترتيبات أمنية ما بين موسكو وطهران. لكن الأخيرة تنفي هذا السياق، فقد صرح وحيد جلال زاده رئيس لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في مجلس الشورى الإيراني، مطلع الأسبوع الجاري، في مقابلة مع قناة “العالم”، بأن بلاده ستستمر في دعم الحكومة السورية دون أن تكون بديلاً لروسيا هناك.
إلا أن هناك عدة مؤشرات تتنافى مع تصريح زاده، فقد كثفت إسرائيل من هجماتها على الأراضي السورية بزعم استهداف مواقع عسكرية تابعة لكل من إيران وحزب الله، وربطت التقارير الإسرائيلية التي تناولت هذا الأمر المتغيرات الميدانية في سوريا بتطورات الحرب الروسية-الأوكرانية. كما سلّطت الزيارة التي قام بها الرئيس السوري بشار الأسد إلى طهران، في 8 مايو الفائت، الضوء على تلك الترتيبات، حيث جاءت قبيل ظهور التقارير التي كشفت عن انسحابات روسية من سوريا. بالإضافة إلى ذلك، فإن حديث زاده لا يعني بالفعل تبادل القيادة ولكن تبادل بعض المواقع، حيث ستُبقي روسيا على مقر القيادة في قاعدة حميميم، بالإضافة إلى سواحل طرطوس، فضلاً عن الأصول العسكرية هناك.
2- مساعٍ تركية لدعم التمدد: تستغل تركيا الموقف الروسي، وتسعى إلى اختبار مواقف باقي الأطراف، خاصة إيران التي تعارض التمدد التركي في سوريا على حساب النظام السوري، وترى أن أي متغير على الساحة، ولا سيما من الجانب الروسي، من المفترض أن يصب في صالحها وصالح النظام. لكن إيران لن تدخل في صدام واسع مع تركيا، فمن مصلحة طهران أيضاً استمرار الضغط التركي على قوات سوريا الديمقراطية “قسد” لإضعافها في مواجهة النظام، إلا أنها ترفض أن يتحول هذا الإضعاف إلى جغرافيا تخصم من “قسد” لصالح تركيا. وفي هذا السياق، أكد الرئيس السوري بشار الأسد، في 9 يونيو الجاري، أنه سيقاوم أى غزو تركي جديد، وركز على دور ما أسماه “المقاومة الشعبية” كمرحلة أولية، في إشارة إلى أن قواته لن تبادر بالمواجهة بشكل مباشر، لكنها قد تتحرك في المرحلة التالية.
3- تعزيز انتشار الجيش الليبي في الشرق والجنوب: من المتصور أن الجيش الليبي يسعى إلى مضاعفة انتشاره في مناطق الشرق والجنوب، حيث يواجه تحدي تنامي الإرهاب في الجنوب. وبينما تشير العديد من التقارير إلى أن روسيا قد تكون بحاجة إلى سحب “فاجنر” من هناك، إلا أن تقديرات الأمم المتحدة تكشف أنه لا توجد مؤشرات فعلية على ذلك. وفي المقابل، لا تزال تركيا تحتفظ في الغرب بقوة من المليشيات التي نقلتها من سوريا إلى هناك، وتكتفي بعملية “الباب الدوار” لاستبدالها من آن لآخر على فترات متباعدة، في حين تعطي أولوية للترتيبات السياسية إلى جانب الاستمرار في تعزيز القوات الليبية في الغرب، على نحو ما سلفت الإشارة.
4- انفتاح موسكو على الغرب الليبي: تتجه موسكو إلى الانفتاح على الغرب الليبي، عبر افتتاح سفارتها هناك في المستقبل القريب، حيث قامت وفود الخارجية الروسية المعنية بهذا الأمر بزيارات إلى طرابلس لتسريع إجراءات التطبيع الدبلوماسي مع المجلس الرئاسي الليبي، المعني بهذه الخطوة، وبالتالي فإن روسيا توزع جهودها في ليبيا ما بين علاقات مع القيادة العامة، بالإضافة إلى دعم تيار سيف الإسلام القذافي ليحجز موقعاً في العملية السياسية الليبية، بالتوازي مع إقامة علاقات دبلوماسية مع طرابلس. وربما تدرك موسكو أنه على الرغم من وجود توترات أمنية في ليبيا في ظل العودة إلى الانقسام السياسي، لكن من المحتمل ألا تنزلق ليبيا إلى الحرب، وبالتالي قد تقلص من حضورها الأمني مقابل تنامي حضورها السياسي والدبلوماسي، خاصة وأن موسكو تُظهِر باستمرار سياسة نشطة في مجلس الأمن حيال الملف الليبي، لا سيما ما يتعلق بتعيين مبعوث أممي جديد تطالب بأن يكون غير منحاز للولايات المتحدة الأمريكية وفق رؤيتها. لكنها بشكل عام وفي ظل علاقاتها المتوترة مع الدول الغربية، سيتعين عليها التنسيق المشترك مع تركيا وفق ما أشار إليه لافروف من مقاربة “الصديق – الشريك”.
حسابات عربية
على الأرجح، تراقب الدول العربية تلك التطورات، ففي بداية الحرب الروسية-الأوكرانية شكلت الجامعة العربية وفداً قام بزيارة روسيا وبولندا، في مسعى للقيام بدور في هذا الإطار من منظور انعكاسات الحرب على المصالح العربية. كذلك أُثيرت خلال زيارة الأسد إلى طهران قضية إعادة العلاقات مع سوريا، في ظل إشارات إلى أن هناك تطوراً في هذا الأمر، خاصة بعد عودة بعض السفارات العربية إلى دمشق. لكن في المقابل، فإن اتجاهات المواقف العربية مع تركيا لم تكشف عن تطور ملموس على الصعيد الميداني في سوريا، لكن مؤشرات التقارب الملحوظ ربما ستنعكس على هذا الملف رغم تعقيداته الصعبة، فليس من مصلحة القوى العربية تمدد إيران أو تركيا في مساحة تقلص التواجد الروسي، وترى اتجاهات عديدة أنه سيتعين على القوى العربية الإسراع في خطوات إقامة علاقات مع الحكومة السورية بما يساهم في زيادة هامش التواجد العربي، وقد تكون القمة العربية المرتقبة في الجزائر فرصة لهذه الخطوة.
أما على الصعيد الليبي، فيبدو أن هناك مقاربة عربية–تركية أقل تعقيداً من الحالة السورية، خاصة في ظل التهدئة بين تركيا وبعض الدول العربية، والتي تنعكس على هدوء الساحة الليبية رغم ما تشهده من توترات، وربما تشارك هذه القوى في ترتيبات انتهاء المرحلة الانتقالية الليبية المقرر في 22 يونيو الجاري. وبالتوازي مع هذه الخطوة، فإن القوى العربية تسعى إلى عدم وصول الفرقاء الليبيين إلى حالة الصدام المسلح مجدداً.
معادلات مختلفة
في النهاية، يمكن القول إن روسيا ليست بصدد الانسحاب الكامل من المنطقة، بما يعني أنها لن تترك فراغاً كبيراً، لكنها تقلص تواجدها العسكري للاستعانة به في أوكرانيا، وبالتالي لا وجود لنظرية الفراغ في هذه الحالة بالمعنى الدقيق، وبما يوحي بأنها تقوم بترتيبات لمعالجة انخفاض مستوى حضورها العسكري، الذي تتصارع كل من إيران وتركيا على التمدد فيه. وعلى الجانب الآخر، تبدو معادلة الحضور العربي في تحسن لكنها لا تزال أقل من أن تشكل ثقلاً سياسياً قادراً على تغيير لعبة موازين القوى في سوريا. لكن في ليبيا قد يكون الوضع مختلفاً، فبعض القوى العربية، مثل مصر، أثبتت أن حضورها قوي، وأكدت قدرتها على التأثير في المعادلة، بينما تسعى روسيا إلى ترتيبات مع تركيا في غرب البلاد مع تقوية حضورها الدبلوماسي كقيمة مضافة لدورها في ليبيا مقابل الحضور الغربي.