إشكاليات متعددة:
عوائق الإصلاحات الدستورية في البلدان العربية المأزومة

إشكاليات متعددة:

عوائق الإصلاحات الدستورية في البلدان العربية المأزومة



تزايدت دعوات بعض الأطراف أو القوى أو التيارات السياسية، سواء في الحكم أو المعارضة، داخل عدد من الدول العربية المأزومة بشأن إجراء إصلاحات دستورية عاجلة، وبرزت سوريا وليبيا على رأس تلك الدول التي لم يتفق أطراف النزاع فيهما على صياغة دستورية موحدة تعجل بعملية نهاية الصراع، وتُضفي استقراراً اقتصادياً وسياسياً على البلاد. لكن المشهد السياسي المرتبك داخل اليمن لا يزال يعيق الإقبال على إجراء إصلاحات دستورية، لاشتداد الصراع بها لأكثر من ثماني سنوات. أما مؤسسة الرئاسة التونسية فأعلنت مؤخراً عن طرح دستورها للاستفاء الشعبي في الخامس والعشرين من يوليو المقبل بعد تعديل عدد من بنوده، في محاولة لتصحيح مسار الثورة التونسية التي لم تحقق أهدافها حتى الآن.

ويرجع فشل القيام بإصلاحات دستورية في دول الأزمات إلى أسباب عدة، منها: أن سيطرة الحكومات المتعددة على عملية صنع القرار في هذه البلدان يؤدي بدوره إلى حالة من الانقسام السياسي تعيق عملية تعديل الدستور، بجانب أن أسلوب المماطلة الذي تتبعه بعض الفصائل المتنافسة على الحكم يعرقل أي مفاوضات تقضي بالوصول لتسوية سياسية تسهم في توقيع اتفاق سلام ثم صياغة دستور جديد، إضافة إلى أن رفض المشاركة المجتمعية يؤثر بالسلب على استكمال تلك العملية، فضلاً عن السماح لقوى الاحتلال الأجنبي بالتدخل في صياغة الدستور.

يشير التيار الرئيسي في الأدبيات إلى أن هناك جملة من العقبات التي تحول دون إتمام دساتير جديدة في الدول العربية المأزومة، على النحو التالي:

سلطة ذات رأسين

1- انتشار نمط السيادة المتعددة: وهو ما ينطبق على الحالة الليبية رغم مرور ثمانية أعوام على انتخاب لجنة صياغة الدستور في ليبيا فبراير 2014، إلا أنه حتى الآن لم تتفق الفصائل المتنافسة على دستور جديد، جراء ارتفاع حدة النزاع والانقسام السياسي بين حكومتي فتحي باشاغا بطبرق شرق ليبيا، وعبدالحميد الدبيبة بالعاصمة طرابلس الذي يرفض تسليم السلطة إلا من خلال انتخابات رئاسية يسبقها إجراء تعديل للدستور، كما أن استمرار الحكومتين المتنازعتين في ادعاء كل منهما الشرعية يعرقل أية جهود أممية للخروج من نفق الأزمة السياسية، بل سيزيد من معدلات العنف، وسيكون من الصعب الوصول لدستور موحد يسهم في إكمال عملية الانتقال السياسي والوصول لحكومة منتخبة. ولعل تدشين “الدبيبة” مؤخراً مليشيا “قوة دعم الدستور والانتخابات” المشكلة من جماعات مسلحة بطرابلس، خير دليل على التوجه إلى العنف في حال لم يتم التوصل لاتفاق مع الأطراف الأخرى.

رؤى متباينة

2- تباين مواقف أطراف النزاع إزاء المسار الدستوري: فمؤخراً انتهت الجولة الثامنة من محادثات اللجنة الدستورية السورية المشكلة منذ ديسمبر 2019 برعاية الأمم المتحدة في مدينة جنيف بمشاركة وفود النظام والمعارضة والمجتمع المدني، دون إحراز أي تقدم في صياغة إصلاح دستوري يساهم في عملية التسوية السياسية للأزمة السورية، ويرجع هذا إلى غياب عملية التناغم بين القوى السورية، فكلا الطرفين (النظام والمعارضة) يحاولان تثبيت مكتسبات الصراع الميداني والعسكري على حساب الشعب السوري، لذا من المتوقع أن تنتهي الجولة التاسعة التي ستعقد في يوليو المقبل بالنتيجة ذاتها، لاستمرار تباين رؤى أطراف التفاوض حول المسار الدستوري، وتبادل الاتهامات بين الطرفين بشأن عدم نجاح المحادثات، ووضع النظام السوري وحلفائه دوماً عقبات في طريق تشكيل اللجنة لعرقلة عملية الوصول لاتفاق سياسي، وهذا بدوره يجعل صياغة دستور سوري جديد مهمة مستحيلة.

تغول المليشيات

3- عرقلة المليشيات المسلحة مفاوضات اتفاق السلام: لم يتمكن اليمن بعد مرور أكثر من سبعة أعوام على الحرب من إجراء أي تعديل على دستوره، وهذا لفشل أطراف النزاع المكونة من مليشيا الحوثي بالعاصمة صنعاء والحكومة اليمنية الشرعية بالعاصمة المؤقتة عدن، في توقيع “اتفاق سلام دائم” رغم المحاولات الأممية والخليجية المتكررة، لأنه في كل مرة تتنصل ميليشا الحوثي من أية اتفاقية. ولعل الاتفاق مؤخراً على “تمديد الهدنة الإنسانية” بين الحوثي ومجلس القيادة الرئاسي اليمني لمدة شهرين إضافيين بحيث تنتهي في أغسطس المقبل، خير دليل على ذلك، حيث لم تمر سوى أيام قليلة على هذا الاتفاق إلا وأعلن الحوثي عن شروط جديدة لصرف رواتب الموظفين في مناطق سيطرته، رغم نص الهدنة على تنفيذ هذا البند دون أية شروط.

بيد أن الحوثي عقب سيطرته على صنعاء، أصدر في فبراير 2015، إعلاناً دستورياً يقضي بحل البرلمان، وتشكيل مجلس وطني انتقالي يتولى اختيار مجلس رئاسي وتعيين حكومة كفاءات، وكان هذا القرار رداً على رفض هذه الجماعة لدعوة الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي في يناير 2015، لإبلاغ الحوثي بإقرار لجنة صياغة الدستور في مسودة الدستور الجديد القبول بنظام فيدرالي مكون من ستة أقاليم موزع بين الحكومة الشرعية والحوثيين، والهدف من ذلك إيصال المليشيا الانقلابية رسالة مفادها أنها لن تقدم أي تنازلات بشأن حقها المزعوم في الأراضي اليمنية، معتبرة أن اتباع “أسلوب المماطلة والمراوغة” سيحقق لها فوائد أكثر.

معضلة الأقليات

4- إقصاء الأقليات والأحزاب من العملية الدستورية: يؤدي استبعاد الأقليات من الانخراط في الإصلاحات الدستورية إلى وضع عراقيل أمام تلك العملية، بل والوصول لحالة من الجمود السياسي، كما هو الحال في سوريا وليبيا. فبالنسبة للأخيرة، أعلن كل من الأمازيغ وأقلية التبو والطوارق عن مقاطعتهم أي عملية تقضي بتعديل الدستور، نظراً لعدم وجود ممثلين لهم على طاولة المفاوضات، واستبعاد بعض المناطق التابعة لهم من إجراءات الاستفتاء، وهذا ما اعتبروه إقصاء وتهميشاً متعمداً وممنهجاً، رغم أن المادة 30 من الإعلان الدستوري المؤقت تنص على وجوب التوافق مع هذه الأقليات في أي عملية إصلاح سياسي، ونتيجة تجاهل تلك المادة أعلنوا عن مساعيهم لاتخاذ خطوات عملية لاستحداث إقليم إداري رابع.

وهناك قاسم مشترك مع الحالة السورية، إذ خرج مئات الأكراد بشمال شرق البلاد في تظاهرات أكتوبر 2019 للتنديد بإقصائهم من عضوية اللجنة الدستورية السورية في جنيف، وطالبوا الأمم المتحدة بحقهم في المشاركة في عملية صياغة الدستور وإلا فلن يلتزموا به، وعند تجاهل مطالبهم تلك أعلنوا في فبراير 2022 الانتهاء من صياغة “دستور محلي” لتنظيم عمل المؤسسات بمناطق الإدارة الذاتية الكردية، ومن المفترض أن يدخل هذا الدستور حيز التنفيذ لاحقاً هذا العام، وهو ما يشكل ضربة للنظام السوري وحلفائه (تركيا، إيران، روسيا) لرؤيتهم أن الأوضاع تستوجب تنحية الأكراد ومنعهم من المشاركة في أي محادثات سياسية، وهو ما ساهم على مدار السنوات الماضية في تصاعد نفوذ الأكراد بسوريا.

وفيما يخص تونس، فإن ما يعيق عملية الاستفتاء الدستوري التي دعا لها الرئيس “قيس سعيد”، هو أن بعض الأحزاب الأيديولوجية التي تم إقصاؤها مؤخراً من المشهد كـ”حركة النهضة” بقيادة “راشد الغنوشي”، تشن حملات ضد “قيس سعيد” لإفشال الاستفتاء المقبل وتعطيل أي محاولة لتصحيح مسار الثورة التونسية، هذا بجانب إعلان عدد من الأحزاب التونسية المعارضة، وهي: الحزب الجمهوري، والتيار الديمقراطي، والتكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات، وحزب العمال، وحزب القطب؛ إطلاق حملة لإسقاط الاستفتاء على الدستور، وتصعيد الاحتجاجات لمقاطعة أي تغييرات سياسية بالبلاد.

الاختراق الأجنبي

5- إشراف القوى الخارجية على العملية الدستورية: تكمن خطورة عملية صياغة الدستور بدول النزاعات في إشراف قوى أجنبية محتلة على إنتاجه، إذ تستوجب مصالح هذه القوى المتحالفة مع النظام عرقلة أي عملية من شأنها التوصل إلى تسوية سياسية بهذه البلدان، كروسيا وإيران في الحالة السورية، وهذا ما يفسر أسباب رفض قوى المعارضة للمفاوضات التي كانت ترعاها موسكو في سوتشي، وعرقلة النظام أية مفاوضات تقودها الأمم المتحدة، أما إيران فجزء من مشروعها الفارسي هو الهيمنة على دول المشرق العربي، ولذا فإن نجاح عملية تشكيل الدستور بسوريا يعني تقليص النزاع بين الأطراف السياسية وتسوية الخلافات فيما بينها، وهو ما قد يؤدي في نهاية الأمر لخروج إيران والجماعات الموالية لها من الأراضي السورية، وهو الحال ذاته في اليمن، جراء الدعم الإيراني المستمر لمليشيا الحوثي الهادف لعرقلة أي تسوية سياسية للأزمة اليمنية.

معضلة التطبيق

خلاصة القول، إن المشكلة الأساسية في دول الأزمات بالمنطقة العربية ليست في نص الدستور ولكن في تطبيق الدستور ذاته، ومحاولة بعض الأطراف السياسية، كحركة النهضة في تونس، ومليشيا الحوثي في اليمن، والمليشيات المناطقية في ليبيا، عرقلة إنجاح أي محاولة للوصول لاتفاق سلام يُسهم في تقليص النزاع وتسوية خلافات الأطراف المتنازعة خاصة في ليبيا وسوريا بعيداً عن الاعتماد على القوى الأجنبية أو استخدام العنف، وإبعاد عدد من أطراف المجتمع عن المشاركة بصلاحيات الصياغة، فضلاً عن ضرورة إدراك مختلف الأطراف أن الدستور هو أداة استعادة نظام الدولة وخروج بلدانهم من نفق الأزمات الاقتصادية وإنهاء محاولات العنف المسلح.