تعكس المؤشرات الاقتصادية، إلى جانب المؤشرات الخاصة بإدارة أصول الدولة، كلفة ضخمة تتحملها الشعوب التي تعيش في ظل سلطات الأمر الواقع والسلطات الانتقالية في العديد من دول الأزمات والصراعات بالمنطقة العربية. وفي مقابل ذلك، لا تحاول تلك الأطراف -التي تحولت إلى نخب وجماعات مصالح- إجراء عملية إصلاح سياسي أو اقتصادي توقف نزيف هذه الخسائر، حيث تستفيد من ربحية الحرب والصراعات الدائمة، بما يمكن القول معه إنه ليس من مصلحتها وقف الحروب أو الصراعات والدخول في عمليات تسوية تعيد ضبط الاختلالات الهائلة التي يعاني منها الملايين الذين يعيشون في ظل التداعيات الكارثية التي خلّفتها النزاعات بشكل عام.
انعكاسات ممتدة
من المتصور أن هذه الفاتورة التي يتحملها الجيل الحالي في هذه الدول قد تمتد إلى أجيال أخرى مقبلة، سواء ما يتعلق بالخسائر البشرية في الأرواح بسبب التصعيد المسلح في بعض الحالات، أو ما يتصل بكلفة نزوح مئات الآلاف داخل الدول، بالإضافة إلى التخلف في كافة مؤشرات التنمية البشرية بشكل عام، وهو ما يمكن تناوله على النحو التالي:
1- تداعيات اقتصادية وإنسانية خطيرة: تكبد اليمن خسائر اقتصادية بسبب الانقلاب الحوثي على الشرعية (سبتمبر 2014) تصل إلى نحو 90 مليار دولار وفقاً للتقديرات الرسمية حتى نهاية عام 2021. وقد تكون الخسائر الاقتصادية الضخمة على هذا النحو بنداً واحداً من الخسائر الهائلة التي تسبب فيها غياب سلطة شرعية معترف بها دولياً في الأوضاع الطبيعية، وهي خسائر يصعب حصرها بالنسبة للبنية التحتية التي تعرضت للانهيار وتتزايد حدة تداعياتها تدريجياً مع رفض المليشيا الاستجابة لمطالب المجتمع الدولي.
ويمكن أن تضاف إلى ذلك مؤشرات الاحتياجات الإنسانية بشكل عام التي كشفت -وفق إحدى إحصائيات الأمم المتحدة- أن هناك 20.7 مليون شخص بحاجة إلى مساعدات إنسانية في عام 2021، بينما يواجه أكثر من نصف السكان مستويات حادة من انعدام الأمن الغذائي، كما خسرت العملة الوطنية في اليمن نحو 180% من قيمتها أمام العملات الأجنبية، وانخفض متوسط دخل الفرد بحوالي 60%.
2- تفاقم أزمات القطاعات الخدمية: فمستوى التدهور الذي شهده التعليم بسبب الحرب مع الحوثيين تصفه التقارير الدولية بأنه “وضع كارثي”، حيث إن أكثر من 2500 مدرسة أصبحت خارج الخدمة، و7% منها تحول إلى ملاجئ للحوثيين، و27% منها لم تعد صالحة للاستخدام. كما حولت المليشيا الكثير منها إلى مدارس طائفية لخدمة المشروع الأيديولوجي الحوثي، فضلاً عن أن بلداً يزيد عدد سكانه سنوياً بمعدل مليون نسمة تقريباً، نحو ثلاثة أرباعهم في مناطق السيطرة الحوثية، بحاجة إلى بناء المزيد من المدارس، بما يوازي هذه النسبة، فضلاً عن انهيار المنظومة التعليمية في حد ذاتها، حيث لا يحصل 135 ألف معلم على رواتبهم، في حين لم تقم المليشيا ببناء مدارس بديلة. ويمكن تقييم الوضع في قطاع الصحة بناءً على ذلك أيضاً، فهو لا يقل كارثية عن القطاع التعليمي، حيث أعلنت الأمم المتحدة في العام الماضي أنه قطاع منكوب ومنهار، بعد أن أدت الحرب إلى مقتل أكثر من 43 ألفاً من العاملين فيه وفقاً لإحصائيات رسمية كشف عنها مطلع العام الجاري.
3- ارتفاع خسائر الصراعات المسلحة: بالمعايير الاقتصادية الدولية، يُعتبر اليمن بلداً فقيراً في الموارد، لكن في حالات أخرى، كحالة بلد غني بالنفط مثل ليبيا، هناك سلطات الأمر الواقع التي فرضت حكومات في ظل حالات الانقسام السياسي، وأدارت البلاد خلال فترات الصراع، على نحو كلفها إهدار أموال وفرص للتنمية، حيث تقدر الكلفة الاقتصادية لفاتورة الصراع المسلح بما يقارب 600 مليار دولار، وقد تتضاعف هذه الكلفة بما يصل إلى 500 مليار إضافية إذا ما استمرت الأزمة الليبية على حالها حتى عام 2025، فضلاً عن تدمير الصراع للبنية التحتية، وهو ما تأثرت به العديد من القطاعات التي لم تتمكن من استئناف عملها بطاقتها الكاملة حتى بعد توقف الحرب. فقد عانى القطاع الصحي تدهوراً خطيراً خلال ذروة أزمة كورونا، بينما يعاني القطاع النفطي تدهوراً في عمليات الصيانة، وخلال هذا الأسبوع أهدر تسرب نفطي في الخط الواصل ما بين حقل السرير وطبرق 220 ألف برميل من النفط الخام، في الوقت الذي يفترض أن يزدهر فيه هذا القطاع ويصل إلى مستويات قياسية في ظل الاحتياجات النفطية.
ويُمكن كذلك النظر إلى قطاع الكهرباء والمياه والخدمات بشكل عام في مناطق عديدة من البلاد. وبالإضافة إلى ذلك، عطلت الأزمة الاستثمارات بشكل عام، وعلى الرغم من حديث الحكومات المتصارعة على السلطة عن عملية التنمية وإعادة الإعمار، إلا أنه يظل خطاباً غير واقعي بسبب الفوضى الأمنية والسياسية التي تعيشها البلاد لأكثر من عقد.
4- تصاعد تأثير التدخلات الخارجية على الأوضاع الداخلية: انعكست الأزمة السياسية في العراق على عملية التنمية، خاصة في ضوء ارتباط بعض القوى السياسية بأجندات أطراف خارجية تسعى إلى تعزيز نفوذها وتستغل دورها في إمدادات الطاقة في ممارسة ضغوط قوية على الداخل. ويبدو التدخل الإيراني مثالاً على ذلك، حيث ساهم في تفاقم أزمات القطاعات الخدمية، بالتوازي مع اتساع نطاق الاستياء الداخلي من هذا التدخل، الذي كان له دور أساسي في أزمة تشكيل الحكومة، في ضوء إصرار طهران على تمكين حلفائها من السيطرة على دوائر السلطة.
وهناك قاسم مشترك مع الحالة اليمنية يتعلق بكلفة النزوح الداخلي التي تكبدها العراق بسبب الحرب على الإرهاب، فضلاً عن الخسائر البشرية، والفاتورة الأمنية. وأيضاً يمكن اعتبار سلطة حماس في قطاع غزة مثالاً آخر للتدهور في العديد من القطاعات الذي يتحمله ملايين السكان في القطاع.
مستويات متعددة
على هذا النحو، يمكن القول إن كلفة تداعيات الصراعات في دول الأزمات بالمنطقة يتحملها المواطن أولاً، لكن في الوقت ذاته يمكن التمييز ما بين الحالات الخطرة، والدول والمناطق التي تفتقر إلى الموارد، مثل اليمن وقطاع غزة، والتي يتحمل المانحون القدر الأكبر من أعبائها، وإن كانت هناك تحديات في هذا الجانب على مدار الأعوام الثلاثة الأخيرة بدأت مع تفاقم الأوضاع الإنسانية وتدهور البنية والخدمات خلال أزمة جائحة كورونا، ثم جاءت الحرب الروسية على أوكرانيا لتفاقم من هذه الأزمات بشكل كبير مع تحول المانحين إلى إبداء اهتمام أكبر بدعم أوكرانيا، وأصبح المتاح من تلك التمويلات يغطي ثلث الاحتياجات المطلوبة.
بينما في الدول الغنية بالموارد، ولا سيما النفط، أدت ظروف السلطات الانتقالية في العراق وليبيا إلى تعطيل وإهدار الفرص. ووفق تقديرات غير رسمية -على سبيل المثال- بلغت كلفة الإهدار والفساد في العراق نحو 360 مليار دولار، بينما الرقم الرسمي يصل إلى 300 مليار دولار فقط فيما يتعلق بالمشروعات الوهمية التي تدخل حيز التنفيذ منذ سنوات. ولا يختلف الوضع كثيراً في ليبيا التي تضعها مؤشرات الفساد الدولية على قائمة الدول العشر الأكثر فساداً في العالم. وفي اليمن، تم الكشف على استحياء في فترة التغيير السياسي الأخير أن هناك عمليات فساد طالت التحويلات المالية إلى البلاد في الفترة السابقة، وأنه يتعين على مجلس القيادة الرئاسي الجديد وقف هذا الأمر.
عرقلة التسوية
إن التساؤل الذي يطرح نفسه في ظل هذه المؤشرات هو: لماذا لا يتم معالجة هذه الاختلالات الهائلة، ووقف التدهور الممنهج والمستدام في تلك الدول والمناطق؟. وفي واقع الأمر، فإن ثمة إجابة تكشف عنها العديد من التقييمات الدولية والرسمية. فعلى سبيل المثال، في اليمن يمكن القول بشكل قاطع إن الحرب التي تشنها المليشيا الحوثية هي حرب ربحية تتعايش عليها المليشيا عبر الاقتصاد غير الرسمي، وتعود عوائدها إلى أمراء الحرب، حيث تهيمن الحركة على السوق السوداء للسلع والمشتقات النفطية والغاز وغيرها، بالإضافة إلى أنها لا تتحمل فاتورة السلاح الذي تحصل عليه من الخارج، كما تُحصِّل عوائد الجباية من قائمة طويلة من الضرائب والجمارك والمصادرات، إضافة إلى ما يعرف بضريبة الخمس، وبالتالي ليس من مصلحة الحركة في الأخير وقف هذه الحرب التي تجني عوائدها، إلا في حال أصبحت لديها بدائل أخرى. على النحو ذاته يمكن الإشارة إلى الجانب الليبي، حيث تنتعش عملية تمويل الفصائل المسلحة، بالإضافة إلى أن حجم الفساد كبير في ظل عيوب الهياكل المالية وغياب الشفافية والمحاسبة، وبالتالي أصبحت هناك نخبة غنية وشعب يفتقر إلى التنمية والخدمات الأساسية. في الأخير، لا يعتقد أن ظاهرة وجود سلطات الأمر الواقع أو السلطات الانتقالية أو الحكومات المتعددة ستختفي في المستقبل القريب، مما يعني استمرار ظاهرة عدم الاستقرار التي تعيشها العديد من الدول التي دخلت دوامة الصراعات الإقليمية منذ أكثر من عقد من الزمان، وبالتبعية ستظل حالة الانهيار في كافة المؤشرات متوالية سنوية تدرج كأرقام في مؤشرات الفساد والتدهور الخاصة بهذه الدول. وبينما لا تزال العملية السياسية والمصالحات الاجتماعية هشة، بالإضافة إلى أن الفساد المستشري في تلك الدول هو سمة أساسية، فسيكون من الصعوبة بمكان حلحلة هذه الأزمات، مما يتعين معه البحث عن حلول استراتيجية غير تقليدية لوقف هذه الكلفة الضخمة جراء فرض النخب المتصارعة وأمراء الحرب سلطة الأمر الواقع التي يصعب الإطاحة بها على النحو الذي جرى عند الإطاحة بأنظمة حكمت تلك البلدان لعقود من الزمن.