فرضت النتائج التي أسفرت عنها الانتخابات النيابية اللبنانية التي أجريت في 15 مايو الجاري، مزيداً من الضغوط الإقليمية التي تتعرض لها إيران في الوقت الحالي. وربما يمكن القول إن ما يُضفي تأثيراً أكبر على هذه الضغوط هو أنها تتوازى مع تطورات ثلاثة مهمة شهدتها الساحتان الداخلية والإقليمية في الآونة الأخيرة: أولها، تصاعد حدة الاحتجاجات الداخلية الإيرانية بسبب ارتفاع أسعار السلع على خلفية قرار حكومة الرئيس إبراهيم رئيسي توحيد سعر الصرف. وثانيها، تزايد التحذيرات من تداعيات الحضور الإيراني في جنوب سوريا. وثالثها، استمرار جمود الأزمة السياسية العراقية بسبب الخلافات العالقة بين القوى السياسية المختلفة، وعدم قدرة طهران على الوصول إلى تسوية لها.
أبدت إيران موقفاً متحفظاً إزاء النتائج التي أسفرت عنها انتخابات مجلس النواب اللبناني، التي أُجريت في 15 مايو الجاري، حيث أكدت، على لسان المتحدث باسم وزارة الخارجية سعيد خطيب زاده، أنها “تحترم إرادة الشعب اللبناني وأصوات الناخبين”. وفي الواقع، فإن هذا التصريح تحديداً يشير بوضوح إلى أن إيران ترى أن النتائج التي انتهت إليها الانتخابات لا تتوافق مع حساباتها ومصالحها. صحيح أن حزب الله وحركة أمل حافظا على المقاعد المخصصة للشيعة في البرلمان القادم، إلا أن الأول خسر بعض مقاعد حلفائه، وفقد الأغلبية البرلمانية التي كان يمتلكها في الدورة السابقة، مقابل تحقيق بعض القوى المناوئة، على غرار “القوات اللبنانية” نتائج أبرز، تمثلت في الحصول على 18 مقعداً بزيادة 4 مقاعد عن الدورة السابقة.
دلالات عديدة
يمكن القول إن نتائج الانتخابات النيابية اللبنانية تطرح دلالات عديدة ترتبط بالدور الإقليمي الذي تمارسه إيران في منطقة الشرق الأوسط، يتمثل أبرزها في:
1- تصاعد الاتجاه المناوئ للتمدد الإيراني: توجه هذه النتائج الرسالة نفسها التي سبق أن وجهتها نتائج الانتخابات البرلمانية العراقية، التي أجريت في 10 أكتوبر الماضي، إلى إيران، وهى أن هناك اتجاهاً داخلياً في كل من لبنان والعراق بدأ يتبنى نهجاً مناوئاً لحضورها الذي كان له دور في تأجيج الأزمات الداخلية التي تعاني منها الدولتان، وكانت سبباً في اندلاع الاحتجاجات التي شهدتها الدولتان في أواخر عام 2019، والتي على إثرها استقالت حكومتا سعد الحريري وعادل عبد المهدي. ففي العراق أيضاً، لم يحقق حلفاء إيران النتائج التي كانوا يسعون إليها، ربما باستثناء ائتلاف دولة القانون، ومن ثم لم ينجحوا حتى الآن في تشكيل الحكومة الجديدة وفقاً لأجندتهم وحساباتهم.
2- التماهي مع مقاربة الاحتجاجات الداخلية: كان لافتاً أن الانتخابات النيابية اللبنانية توازت مع اتساع نطاق الاحتجاجات التي تشهدها إيران في الفترة الحالية، نتيجة القرارات الاقتصادية التي اتخذتها حكومة الرئيس إبراهيم رئيسي، والتي تعتمد في الأساس على توحيد سعر الصرف، في ضوء الفجوة الواسعة بين سعر الدولار الرسمي الذي كان يصل إلى 4200 تومان وسعر الدولار في السوق السوداء الذي كان يبلغ نحو 30 ألف تومان. ورغم أن هذه الاحتجاجات، على غرار سابقاتها، بدأت بالاعتراض على الأوضاع المعيشية، فإنها، بمرور الوقت، اكتسبت طابعاً سياسياً بامتياز، خاصة في ضوء تجدد المقاربة التي تبنتها الاحتجاجات السابقة، والقائمة على الربط بين تفاقم الأزمتين الاقتصادية والاجتماعية في الداخل، واستنزاف الموارد الإيرانية في الإنفاق على مساعي التمدد في الخارج.
3- تعزيز مواقع تحالفات “السيادة”: لم تعد “أقلمة” الخطاب الداخلي حكراً على القوى الحليفة لإيران في كل من العراق ولبنان. فقد بدا لافتاً أن القوى المناوئة بدأت في الاستناد إلى مصطلح “السيادة” كدلالة بالغة على توجهاتها الداخلية والخارجية. ورغم أن هناك إشكاليات عديدة قد تواجه هذه الآلية الجديدة؛ إلا أنها في النهاية تُوحي بأن تلك القوى بدأت ترى وتروج إلى أن دعوتها إلى استقلالية القرار الداخلي وإنهاء التدخلات الخارجية تمثل الفارق الأهم مع القوى الأخرى التي تتبنى أجندة إقليمية. وقد سعى حزب القوات اللبنانية، على سبيل المثال، إلى تأكيد أن خلافاته ليست مع الطائفة الشيعية، بل مع القوى الشيعية التي تتحالف مع إيران. ففي هذا السياق، قال رئيس جهاز العلاقات الخارجية في الحزب الوزير السابق ريشار قيومجيان، في 3 يناير الماضي: “إننا والشيعة السياديين نواجه خطر المشروع الإيراني وحزب الله”.
واللافت أن التيار الصدري في العراق حرص على تبني المقاربة نفسها في تجديد إصراره على التمايز عن القوى الموالية لإيران. فقد قال زعيم التيار مقتدى الصدر، في إطار إعلان تحوله إلى ما أسماه “المعارضة الوطنية”، في تغريدة على موقع “تويتر” في 15 مايو الجاري: “تشرفت أن يكون المنتمون لي أكبر كتلة برلمانية في تاريخ العراق، وتشرفت أن أنجح في تشكيل أكبر كتلة عابرة للمحاصصة، وتشرفت أن أعتمد على نفسي، وألا أكون تبعاً لجهات خارجية، وتشرفت بألا ألجأ للقضاء في تسيير حاجات الشعب ومتطلبات تشكيل الحكومة”.
4- تزايد التحذيرات من تداعيات الحضور الإيراني في سوريا: جدد العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني، في 19 مايو الجاري، تحذيراته من التداعيات التي يمكن أن تفرضها الحرب الروسية-الأوكرانية على سوريا، ولا سيما ما يتعلق باتجاه إيران إلى ملء الفراغ الناتج عن الانشغال الروسي بإدارة الحرب، حيث قال في هذا الصدد: “إن الوجود الروسي في الجنوب السوري كان يشكل مصدراً للتهدئة في سوريا”، مشيراً إلى أن “الفراغ سيملؤه الإيرانيون ووكلاؤهم”، ومحذراً من تصعيد محتمل للمشكلات على الحدود الأردنية.
هذه التصريحات توازت مع تزايد الدعوات داخل الولايات المتحدة الأمريكية لعدم شطب الحرس الثوري من قائمة التنظيمات الإرهابية الأجنبية، وهو أحد المطالب التي تبنتها إيران للموافقة على إبرام صفقة جديدة خلال المفاوضات التي توقفت في فيينا منذ 11 مارس الماضي. ولم تعد تلك الدعوات مقتصرة على بعض نواب الحزبين الجمهوري والديمقراطي، رغم أهمية ذلك من دون شك، ولكنها امتدت إلى بعض المسئولين السياسيين والعسكريين. فقد قال مدير الاستخبارات الدفاعية الأمريكية الجنرال سكوت بريير، في 10 مايو الجاري، إن “الحرس الثوري قد يصعد من استهدافه لشركاء الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة، واعتداءاته على القوات الأمريكية، في حال حصل على إعفاءات من العقوبات”.
ومن دون شك، فإن هذه التحذيرات في مجملها تلقي الضوء على التداعيات السلبية التي تفرضها التدخلات الإيرانية المستمرة في المنطقة، ولا سيما في دول الأزمات، على غرار العراق وسوريا واليمن، خاصة فيما يتعلق بتأجيج تلك الأزمات عبر دعم بعض القوى المحلية، سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، وعرقلة الجهود التي تبذل من أجل تسويتها.
رسائل مضادة
رغم ذلك، لا يبدو أن إيران سوف تفهم هذه الرسائل على نحو يمكن أن يدفعها إلى إجراء تغيير في سياستها، على الأقل باتجاه التغاضي عن الآليات التي تؤدي إلى تهديد حالة الأمن والاستقرار في المنطقة. بل ربما يمكن القول إنها ستمعن في توجيه رسائل مضادة إلى القوى المعنية بتداعيات دورها الإقليمي، مفادها أنها لن تتبنى هذا التوجه، ولن تقدم على إجراء هذا التغيير، وهى سياسة لا يبدو أنها سوف تتأثر بما سوف تنتهي إليه المفاوضات النووية في فيينا، خاصة أن إيران حريصة على الفصل بين نتائج هذه المفاوضات وبين طموحاتها في الإقليم، رغم أن مطلبها الأساسي بشطب الحرس الثوري من قائمة التنظيمات الإرهابية الأجنبية يكتسب طابعاً إقليمياً بامتياز.