فى مطلع شهر مارس الماضى ساد انطباع عام بأن دول ٥+١ على وشك إحياء الاتفاق النووى مع إيران، وخرَجت تصريحات بهذا المعنى من أطراف مختلفة بما فى ذلك وزير الخارجية الإيرانى حسين أمير عبد اللهيان الذى أكّد أن بلاده اقتربت من التوصّل إلى اتفاق فى مفاوضات ڤيينا النووية. وفى الواقع فإن هذا التحليل بدا منطقيًا على ضوء اندلاع حرب أوكرانيا بما لها من تأثير على الأطراف المتفاوضة، فعلى جانب دول ٥+١ فإن الإسراع بإحياء الاتفاق النووى كان يسمح لها بالتركيز على مجريات الحرب الأوكرانية ويسمح للنفط الإيرانى بتعويض جزء من الصادرات النفطية الروسية التى استهدفتها العقوبات الاقتصادية. وعلى الجانب الإيرانى فمع أن إيران شعرت بأنها أصبحت فى موقف تفاوضى أفضل بسبب قضية النفط، إلا أن سيناريو إطالة أمد الحرب الأوكرانية يمكن أن يؤثر سلبيا فى الدور الذى تلعبه روسيا فى الساحة السورية ما ينذر بعودة قوية لنشاط تنظيم داعش. وبناءً على ما سبق كان من الطريف أنه عندما طلبَت روسيا استثناء تعاملاتها مع إيران من العقوبات الاقتصادية رفضَت الولايات المتحدة وإيران معًا، علمًا بأن الطلب الروسى كان مجرد مناورة لأن روسيا كما الصين لا تقيمان وزنًا للعقوبات الاقتصادية فى تجارتهما مع إيران. بعد هذه المقدمة المبشّرة بقرب نجاح المفاوضات إذا بعُقدَة جديدة تظهر وتروح تكبر أكثر فأكثر مثل كرة الثلج، وذلك بإصرار ايران على رفع الحرس الثورى من قائمة التنظيمات الإرهابية الأجنبية التى أدرجه عليها دونالد ترامب فى عام ٢٠١٩، وهكذا توقفّت ماكينة التفاوض منذ مارس الماضى.
أراد ترامب بهذا القرار وضع عصا كبيرة فى عجلة الرئيس الأمريكى القادم لو أراد العودة للتفاوض مع إيران، وذلك فى حالة لم يتم التجديد له هو لفترة رئاسية ثانية. وكان قد سبق لترامب أن وضع مئات العصّى فى عجلة من سيخلفه فى البيت الأبيض عبر السلاسل المتتالية من العقوبات الاقتصادية على كل شىء تقريبًا، ومع ذلك فإن عصا الحرس الثورى بالذات كانت هى الأغلظ مقارنةً بكل ما سبقها من عصى. وذلك لأن الحرس الثورى هو جزء من القوات المسلحة الإيرانية بنص الدستور أما بحكم الأمر الواقع فهو عامود تلك القوات المسلحة، أقوى من الجيش وأضخم تسليحًا وأكثر تدريبًا، وهو صانع النفوذ الإقليمى لإيران بالدور الذى يلعبه فى كل ساحات الصراع العربية وفى المواجهة مع إسرائيل، وبالتالى فإن وضع الحرس على قائمة التنظيمات الإرهابية له دلالة رمزية بالغة السلبية بالنسبة لإيران، دع عنك أنه الداعم الأكبر لمرشد الثورة وأخطبوط اقتصادى كبير.يفسّر لنا ذلك تمسّك إيران برفع الحرس الثورى من قائمة التنظيمات الأجنبية الإرهابية، فعلى الرغم من أنه من قبل قرار ترامب كان هناك بعض مسئولى الحرس الثورى مدرجين على قوائم الإرهاب إلا أن المسئولين فرادى شىء والحرس الثورى كمؤسسة شىء آخر. كذلك فإنه على الرغم من استهداف الحرس الثورى بعقوبات اقتصادية من جانب وزارة الخزانة الأمريكية عام ٢٠١٧ أى فى ظل حكم ترامب أيضًا، إلا أن هذا لم يقترن فى حينه بتصنيف الحرس كمنظمة إرهابية، وهذا فارق مهم. بناء على ما سبق كان ترامب يعلم أن إيران لن تقبل استمرار هذا الوضع، وكان يحرج الرئيس الذى يليه لو أراد العودة للاتفاق النووى إذ كيف سيتفق مع دولة تم تصنيف الجزء الأهم من قواتها المسلحة كتنظيم إرهابي؟ وإذا ما حاول هذا الرئيس شطب الحرس الثورى من قائمة التنظيمات الإرهابية فكيف سيواجه الضغوط الداخلية، ليس فقط من الجمهوريين الذين كانوا أساسًا ضد الاتفاق النووى فى يوليو ٢٠١٥، لكن كذلك من جزء من الديمقراطيين الذين لا يثقون فى أن إيران ستحترم الاتفاق.
بطبيعة الحال هناك سؤال مهم يدور حول سبب الظهور المفاجئ لعقدة الحرس الثورى بعد ١١شهرًا من المفاوضات المضنية، وفى إجابة هذا السؤال المشروع توجد وجهتا نظر، الأولى أننا لو رجعنا لبدايات المفاوضات فى العام الماضى لوجدنا أن إيران كانت تتمسك بمطلبين أساسيين هما: رفع كل العقوبات الاقتصادية عليها سواء ما اتصل منها بالبرنامج النووى أو بقضايا أخرى، والحصول على ضمانات أمريكية بعدم الانسحاب مرة أخرى من الاتفاق. ومع أن هذين المطلبين لا يتناولان موضوع الحرس الثورى، إلا أنه ربما كانت مطالبة إيران برفع كل أنواع العقوبات غطاءً لتمرير رفع الحرس من قائمة التنظيمات الإرهابية، فما أن اقتربت ساعة الحسم حتى انفجرت هذه القضية التفصيلية المهمة فى وجوه المتفاوضين. أما وجهة النظر الأخرى فهى أن إيران أرادت تعظيم مكاسبها إلى الحد الأقصى، ولقد سبق لإيران أن اختبرت تصميم دول الاتفاق على مواصلة التفاوض معها عندما أعادت النظر فى الصيغة شبه النهائية للاتفاق والتى كان قد تم التوصل إليها فى ظل الرئيس حسن روحانى فى يونيو ٢٠٢١، وسرعان ما استوعب المفاوضون الصدمة المفاجئة واستجابوا للضغوط الإيرانية ودارت ماكينة التفاوض من جديد. طبعًا توجد فوائد لسياسة حافة الهاوية هذه، لكن أيضًا توجد محاذير فالتقارير الواردة من إيران تحذّر من حراك شعبى واسع ضد تدهور مستوى المعيشة، وبالتالى فهناك حاجة ملّحة لرفع العقوبات على تصدير النفط وكذلك تحرير الأرصدة الإيرانية المجمّدة فى الخارج.
أيًا ما كان تفسير الظهور المفاجئ لعقدة الحرس الثورى، فإن استراحة المفاوضين فى النمسا ـــ كما أعتقد ـــ لن تكون مفتوحة وإلا ستصل المفاوضات إلى طريق مسدود، أولًا لأن البدائل الأخرى شديدة التكلفة، وثانيًا لأن الاتفاق يحقّق الحد الأدنى من مصالح طرفيه. ولقد بدأت الاجتهادات تتواتر لحل عقدة الحرس، من أول الحفاظ على إدراج فيلق القدس على قائمة الإرهاب دون الحرس ككل، وحتى رفع الحرس من القائمة مع استمرار العقوبات عليه، وثمة وساطة قَطَرية قد تأتى بأفكار أخرى.
نقلا عن الأهرام