تصاعد إطلاق دعوات الحوار من قبل القيادات السياسية أو بعض أجنحة الحكم أو مسئولي مشروعات ذات طبيعة ثقافية أو منظمات إقليمية ودولية لتسوية خلافات بين أطراف وجماعات سياسية داخل الدول العربية، أو تصحيح مفاهيم وصور ذهنية بين أطراف داخلية وجهات خارجية، وهو ما يُمكن تفسيره استناداً إلى عوامل عدة، منها مشاركة الأطراف المختلفة في خريطة أولويات العمل الوطني، وتدشين دعائم “الجمهورية الجديدة” في مصر، ومواجهة تعثرات الفترة الانتقالية والقضاء على فجوة الثقة بين المكونين العسكري والمدني في السودان، وتهدئة التوترات بين الحكومات المتنافسة على السلطة بليبيا، وتجاوز الأزمة السياسية الممتدة واستكمال مسار 25 يوليو في تونس، ووقف حالة الحرب بين قوات التحالف والحكومة الشرعية من جانب وجماعة الحوثيين من جانب آخر في اليمن، وتقديم صورة متميزة عن الشخصية السعودية بالخارج بما يتماهى مع رؤية 2030؛ وهو ما يصب في تعزيز حالة الاستقرار الغائب عن المنطقة العربية، ويتماشى مع اتجاه التهدئة في العلاقات العربية البينية، والعلاقات العربية الإقليمية.
على الرغم من أن دعوات الحوار لتسوية أزمات والتوصل إلى تصورات مقترحة أو خيارات بديلة لأوضاع قائمة في الدول العربية ليست جديدة بل تُطرح بين الحين والآخر، وتنجز أهدافاً في حالات وتتعثر في حالات أخرى، ويجمعها قواسم مشتركة في حين قد ينفرد بعضها بمسار خاص؛ إلا أنه يلاحظ أنها صارت أشبه بظاهرة واضحة في عدد من الدول العربية، وخاصة في مصر والسودان وليبيا وتونس واليمن والسعودية، في النصف الأول من عام 2022، وتشمل جلسات الحوار قضايا مختلفة، سياسية ودستورية واقتصادية واجتماعية وأمنية وعسكرية، تبعاً لكل حالة على حدة.
ويمكن القول إن هناك تفسيرات متعددة لتصاعد دعوات الحوار في الدول العربية يتمثل أبرزها في:
خريطة الأولويات
1- مشاركة الأطراف المختلفة في خريطة أولويات العمل الوطني: وقد بدا ذلك واضحاً في حالة مصر حينما أعلن الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي في حفل إفطار الأسرة المصرية، في 27 أبريل الفائت، أنه تم تكليف إدارة المؤتمر الوطني للشباب بالتنسيق مع كافة التيارات السياسية الحزبية والشبابية لإدارة حوار سياسي حول أولويات العمل الوطني خلال المرحلة الراهنة، ورفع نتائج هذا الحوار إليه شخصياً، مع تعهده بحضور المراحل النهائية منها. ولعل ذلك يمثل تحولاً مختلفاً في نهج مؤسسة الرئاسة تجاه قضايا المجال أو الحوار العام، ولا سيما في ظل استفحال الأزمة الاقتصادية العالمية بعد الحرب الروسية-الأوكرانية، وضرورة مضاعفة دور القطاع الخاص في تنمية الاقتصاد الوطني، وتوسيع إطار العمل الحكومي مع منظمات المجتمع المدني.
متاهة الانتقال
2- مواجهة تعثرات الفترة الانتقالية بالسودان: فبعد مرور أكثر من ثلاثة أعوام على سقوط نظام البشير، لا تزال هناك إشكالية حادة تتصل بالعلاقة بين المكونين العسكري والمدني، أبرزها فجوة الثقة، وهو ما يستوجب حواراً يضم مختلف القوى السياسية. وفي هذا السياق، حددت الآلية الثلاثية المكونة من بعثة الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي ومنظمة الإيجاد (الهيئة الحكومية للتنمية) إجراء الحوار الوطني بين كافة المكونات السودانية مع استثناء حزب المؤتمر الوطني “المنحل” منه، وإتاحة الفرصة أمام مشاركة النساء والقيادات الشبابية في لجان المقاومة الشعبية، في 10 مايو الجاري، على أن يتناول الحوار عدداً من الأولويات منها الترتيبات الدستورية التي تشمل العلاقة بين المكونين العسكري والمدني، والعلاقة بين المؤسسات المختلفة وآليات اختيار رئيس وزراء، ووضع برنامج حكومي والاتفاق على خارطة طريق بشأن ما تبقى من المرحلة الانتقالية والإطار الزمني لإنجاز الانتخابات في نهاية المرحلة الانتقالية.
السلطة ذات الرأسين
3- تهدئة التوترات بين الحكومات المتنافسة على السلطة في ليبيا: عملت الأمم المتحدة خلال الأشهر الماضية على إطلاق حوار بين الأطراف المتصارعة في ليبيا، وتحديداً بين حكومتي عبدالحميد الدبيبة وفتحي باشاغا، بهدف مراجعة القوانين الانتخابية وحل الخلافات بشأنها، والترتيبات الدستورية، والدفع من أجل إجراء انتخابات في البلاد في أقرب وقت ممكن. وهنا تجدر الإشارة إلى إطلاق باشاغا، في 5 مايو الجاري، مبادرة لعقد حوار بين الأطراف السياسية، حتى لا يزداد مسار عدم الاستقرار. وقد سبق أن وجه الدبيبة، في 21 مارس الماضي، بتشكيل لجنة وطنية موسعة مختصة بإدارة حوار وطني حول مشروع القاعدة الدستورية للانتخابات.
أزمة مستعصية
4- تجاوز الأزمة السياسية الممتدة في تونس: قرر الرئيس قيس سعيّد، في 2 مايو الجاري، تشكيل لجنة تتولى إدارة الحوار الوطني، يُستثنى منها أحزاب المعارضة (والتي يقصد بها بشكل رئيسي حركة النهضة والقوى المؤتلفة معها) التي كانت سبباً رئيسياً في المأزق الذي وصلت إليه البلاد، بعد القرارات الاستثنائية التي اتخذها سعيّد في 25 يوليو الماضي، وهو ما عبر عنه في خطابه الذي ألقاه بمناسبة عيد الفطر قائلاً: “ستتشكل لجنة بهدف الإعداد لتأسيس جمهورية جديدة تُنهي أعمالها في ظرف وجيز”، مضيفاً: “ستتشكل هيئتان داخل هذه اللجنة العليا إحداهما للحوار”، وهو ما يعكس عدم استناد الرئيس للاستشارة الإلكترونية التي أعلنها قبل شهور.
وأكد سعيد أن الحوار لن يشمل “من باعوا أنفسهم ولا وطنية لهم إطلاقاً ومن خربوا ومن جوعوا ومن نكلوا بالشعب” وإنما “المنظمات الأربع الوطنية” وهي: الاتحاد العام التونسي للشغل، والاتحاد التونسي للصناعة، والرابطة التونسية لحقوق الإنسان، والهيئة الوطنية للمحامين. ولعل إطلاق هذه الدعوة من قبل الرئيس سعيّد يعبر عن استجابة الأخير لدعوة رئيس الاتحاد التونسي للشغل نور الدين الطبوبي، للشروع الفوري في إطلاق حوار وطني “قبل فوات الأوان”، معتبراً أنه “قارب النجاة الأخير” للبلاد، على ألا يكون بشروط مسبقة. هذا فضلاً عن رغبة الرئيس سعيّد في احتواء الضغوط الغربية من الولايات المتحدة والدول الأوروبية على تونس، حيث قالت بعثة للبرلمان الأوروبي في ختام زيارتها لتونس في 13 أبريل الفائت: “إن إجراء حوار وطني شامل حقيقي أمر حتمي”.
حرب اليمن
5- وقف حالة الحرب بين قوات التحالف والحوثيين في اليمن: اقترح مجلس التعاون الخليجي، في 21 مارس الماضي، إطلاق حوار مع جماعة الحوثي بغرض التوصل إلى نهاية للحرب التي تجاوزت سبعة أعوام، دون أن يستطيع أي من أطراف الحرب حسمها لصالحه، وهو ما أعاد إلى الأذهان مؤتمر الحوار الوطني الذي عقد في عام 2013، وشارك فيه أكثر من خمسمائة شخص، وبلغت نسبة تمثيل الحوثيين 6 في المائة. ورغم ترحيب عدد من الأحزاب السياسية اليمنية بالدعوة، إلا أن جماعة الحوثي رفضت حضور ذلك المؤتمر الذي كان سيُعقد في العاصمة الرياض. غير أن هذه الدعوة سرعان ما تحولت إلى حوار داخل معسكر الشرعية، وهو ما قاد في نهاية المطاف إلى تشكيل مجلس القيادة الرئاسي اليمني برئاسة رشاد العليمي، والذي طالب جميع اليمنيين بالالتفاف حول مشروع استعادة الدولة اليمنية، ومكافحة الفساد، ومكافحة النزاعات الطائفية ومحاربة الإرهاب.
الصورة الذهنية
6- تقديم صورة متميزة عن الشخصية السعودية بالخارج: كشف المدير التنفيذي لمشروع “سلام” للتواصل الحضاري د. فهد السلطان، في تصريحات للعربية نت، في 28 مارس الماضي، أن المشروع الذي تأسس في عام 2015 يهدف إلى دراسة وتحليل واقع الصورة الذهنية للسعودية، ولإبراز مظاهر التعايش والتسامح والتواصل الحضاري، وتقديم المنجز الحضاري والتنموي الذي حققته السعودية، حيث تتناغم جميع مساراته وبرامجه مع رؤية المملكة 2030. وأكد أن “سلام” يمثل منصة هادفة ومفيدة للحوار والتواصل المفتوح والتفاهم الإيجابي بين السعوديين وغيرهم من المجتمعات، وفتح باب الحوار حول القضايا التي لا تكون واضحة لدى المجتمعات والثقافات الأخرى، وقد تؤثر على الصورة الذهنية لدى أفراد تلك المجتمعات.
وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن هناك برنامج تأهيل للقيادات الشابة للتواصل العالمي يدعم من خلال مشروع “سلام”، ويقام على مدار ثلاثة أشهر، ويتم من خلاله تزويد الشباب والشابات المقبولين بمهارات التواصل والتعامل مع الآخر، بهدف إعدادهم للمشاركة في الملتقيات والمحافل الدولية، لتقديم وطنهم بصورة تعكس واقعه الثقافي عبر حلقات نقاش وورش عمل وزيارات ميدانية، وجلسات عصف ذهني مركزة، وتطبيقات عملية وتبادل للخبرات. ولعل ما يدعم ذلك برنامج “جسور” عبر تفعيل دور طلبة المملكة المبتعثين في الولايات المتحدة في تعزيز مبادئ التواصل الحضاري بينهم وبين أقرانهم في الولايات المتحدة من أجل دعم الصورة الإيجابية للمملكة. كما يعمل المشروع على التنسيق مع وزارة التعليم والملحقيات التعليمية لإقامة وتنظيم البرنامج للمبتعثين في مواقع أخرى.
مخرجات عملية
خلاصة القول، إن هناك مسببات متعددة لإطلاق دعوات الحوار في المنطقة العربية، ويظل التحدي متعلقاً بالقدرة على تجاوز العقبات التي تواجه ترجمة مخرجات هذا الحوار إلى سياسات عملية، ومنها محاولة أطراف سياسية مستبعدة من فعاليات الحوار عرقلة إنجاحه واستمراره، والعمل على استمرار الدوران في حلقة مفرغة من التأزم وعدم الاستقرار، ويأتي في مقدمتها فروع جماعات الإخوان المسلمين ومنتسبو النظم المنهارة مثل النهضة في تونس وحزب المؤتمر الوطني بالسودان، فضلاً عن إدراك مختلف الأطراف ضرورةَ تقديم تنازلات متبادلة، والتخلي عن منطق المباراة الصفرية، وتغليب مصلحة الوطن ووضعها فوق أية اعتبارات أخرى.