تشير كل التحركات الدولية إلى أن الحرب في أوكرانيا قد تطول أكثر مما كان متوقعاً وأن تداعياتها عالمياً قد تزيد بسبب تعقيدات ملفات عدة. ما بدأ كنزاع حدودي ومحاولة قوة عظمى استعراض عضلاتها لفرض إرادتها السياسية على دولة جارة تحوّل الى صراع عالمي له أبعاد أيديولوجية وستكون تأثيراته الاقتصادية والسياسية كبيرة وعابرة للقارات. وما كان ممكناً قبل حرب أوكرانيا لن يكون كذلك بعد اندلاعها، وهذا ينطبق على مواضيع عدة يشكل الدور الروسي جزءاً أساسياً منها ومن ضمنها الاتفاق النووي مع إيران والوضع في سوريا ومصير نظام بشار الأسد.
الوضع الميداني في أوكرانيا يشير الى تحضير قائم على قدم وساق من جانب روسيا لشن هجوم كبير لاحتلال إقليم دونباس بالكامل من أجل توفير استراتيجية خروج للرئيس الروسي فلاديمير بوتين يستخدمها لوقف الحرب من جانبه عندما يرى الوقت مناسباً. فهو لطالما قال إن مطلبه الرئيسي من أوكرانيا هو تحرير إقليم دونباس وشبه جزيرة القرم. وبالتالي السيطرة على الإقليم ستظهره على أنه انتصر في هذه الحرب. لكن بالطبع غاياته أكبر، إذ إنه يريد السيطرة أيضاً على ممر بري يربط إقليم دونباس بشبه جزيرة القرم، وربما أكثر من ذلك. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو هل ستتمكن القوات الروسية من تحقيق ذلك؟
أميركا والقوى الأوروبية مصممتان على حرمان بوتين من تحقيق أي نصر في أوكرانيا، وهما تعملان جاهدتين على ذلك عبر مد أوكرانيا بأحدث الأسلحة ودعمها اقتصادياً وسياسياً. فبعدما كانت فكرة التغاضي عن سيطرة روسيا على إقليم دونباس مقبولة في السابق لدى بعض القيادات الغربية، بات هذا الأمر مرفوضاً اليوم نتيجة الشحن الإعلامي والاصطفاف الأيديولوجي بين القوى الليبرالية الديموقراطية والقوى الأوتوقراطية، وبين القومية الأوروبية والقومية الروسية، وبين المصالح الأميركية والمصالح الروسية والصينية.
هذه الاصطفافات الحادة تؤثر سلباً في الوساطات والجهود لإنهاء الحرب بين الطرفين. لذلك، فإن هذه الحرب ستكون طويلة، وأحد دلالات ذلك هو التقارير الواردة من واشنطن عن إجراء مسؤولي البنتاغون اجتماعات مع مدراء شركات السلاح الرئيسية في أميركا لمناقشة كيفية تعويض القوات الأميركية عن كميات الأسلحة التي تنوي تزويدها لأوكرانيا خلال الفترة المقبلة والتي قد تستمر لأشهر وربما سنوات. فالجيش الأميركي يزود أوكرانيا بالعتاد والسلاح والذخائر من مخازنه العسكرية من أجل تسريع عمليات التسليم. وهو اليوم يعتزم زيادة قيمة هذه المساعدات لتتخطى الملياري دولار وستشمل مروحيات هجومية ومنظومات صواريخ مضادة للطائرات والسفن. كما ستعمل قوى أوروبية على تزويد أوكرانيا بالدبابات والعربات المدرعة والهجومية لتمكين القوات الأوكرانية من شن هجمات مضادة وتحرير أراضٍ من السيطرة الروسية.
لا يمكن التنبؤ بمسار الأمور ميدانياً. فهذه الحرب كانت مملوءة بالمفاجآت حتى الآن. تمكّن أوكرانيا من الصمود بهذا الشكل وتكبيد الروس خسائر كبيرة هما مفاجأة بحد ذاتها لم يتوقعها أي من الأجهزة الاستخباراتية لا في روسيا ولا في أميركا وأوروبا. ومن هنا فإن تطور الأمور ميدانياً يتوقف على مدى كفاءة القوى المتحاربة ونجاح تكتيكاتها القتالية واستراتيجيتها، وصلابة إرادتها القتالية وقوة معنويات الجنود، والتفوق التكنولوجي. وحتى الآن أثبتت الوقائع على الأرض مدى تفوق التكنولوجيا الغربية مقابل التكنولوجيا الروسية. كما أن استخدام الصواريخ الدقيقة في هذه الحرب يخدم المُدافع أكثر من المهاجم، إذ إنها تمنعه من التقدم بشكل آمن وسريع ومن حشد قواته على الخطوط الأمامية. والدعم الاستخباراتي الغربي بمنظومات الحرب الإلكترونية مكّن الأوكرانيين من التحرك بفعالية ومنع محاولات الجيش الروسي للتشويش على منظومات الاتصال وتشتيت الجيش الأوكراني.
صعوبة الموقف ميدانياً ترافقت مع تشديد العقوبات الاقتصادية ومحاولات العزل السياسي الذي تقوم به أميركا وحلفاؤها ضد روسيا. فالغرب اليوم يصور روسيا على أنها دولة مارقة ترتكب أعمال إبادة جماعية وتهدد الأمن الدولي، وبالتالي أي جهة تتعامل معها اقتصادياً وسياسياً إنما هي تساعد موسكو أو تؤيدها في سياساتها وأفعالها في أوكرانيا. من هنا حجم الضغط المتصاعد على ألمانيا وغيرها في أوروبا لوقف استيراد الغاز من روسيا، والضغط الأميركي على القوى الآسيوية وبخاصة الهند لفك ارتباطها مع روسيا. وهناك تصاعد باللهجة والتحركات الأميركية والغربية تجاه دول الشرق الأوسط للتخفيف من حجم تعاملاتها مع روسيا ولضخ المزيد من النفط للحد من ارتفاع الأسعار.
وتشكل الحرب ضد روسيا أداة ضغط لإدارة الرئيس الأميركي جو بايدن والحزب الديموقراطي لتسجيل مكاسب ضد الرئيس السابق دونالد ترامب وحلفائه في الحزب الجمهوري ممن تربطهم علاقة ملتبسة مع فلاديمير بوتين وموقفهم ضبابي إلى حد ما من الحرب. فأوكرانيا ليست دولة إسلامية ولا هي جزء من الشرق الأوسط، بل هي جزء من أوروبا البيضاء المسيحية والليبرالية الديموقراطية، وعليه فإن نظرة غالبية الشارع الأميركي لها مختلفة من ناحية إدانة الهجوم الروسي وضرورة مساندة أوكرانيا عسكرياً. هذا سيرفع من مستوى الخطاب المضاد لروسيا ولكل سياساتها في العالم ومنها ما يجري في الشرق الأوسط. فإدارة بايدن لن ترفع “الحرس الثوري” الإيراني عن لائحة المنظمات الإرهابية، ولن تتمكن من التساهل في ملف إيران للصواريخ البالستية ودعمها لميليشياتها في المنطقة التي تستفيد روسيا منها. وفكرة رفع قيود عن مليارات الدولارات لإيران لشراء معدات وأسلحة من روسيا والصين ليست مستحبة في مناخ واشنطن الحالي. وحتى المزاج على الساحة الأوروبية سيزداد تشدداً مع الوقت، ما سيضع إيران أمام خيارين: إما القبول بشروط جديدة أو البقاء تحت العقوبات.
أما في سوريا، فليس من المستبعد أن تعيد أميركا تقييم سياستها بشكل تجعل الوجود العسكري الروسي فيها عرضة لضغوط كبيرة عبر إعادة تسليح قوى المعارضة والمجموعات الكردية التي تسعى لطرد النظام من مناطق سيطرتها. فلقد قامت روسيا بسحب عدد من كبار قادتها العسكريين ومن مرتزقة “فاغنر” من سوريا والزج بهم على الجبهة الأوكرانية. ومن غير المستبعد إقدامها على سحب طائرات حربية من قاعدة حميميم أيضاً للمشاركة في هذه الحرب. هذا سيخلق فراغاً ستحاول إيران تعبئته، في حين قد تعمل واشنطن مع أنقرة لتفعيل الدور التركي على الساحة السورية. طبعاً أي تطورات في سوريا ستكون لها تداعيات على الساحة اللبنانية. واشنطن لم تبارك أي من عمليات الانفتاح على دمشق ونظام الأسد ولا تزال تلوح بعقوبات قانون قيصر على كل من سيتعامل اقتصادياً معه.
كل حليف لروسيا هو اليوم عدو لدود للغرب في مناخ حرب يأخذ منحىً عقائدياً وتصاعدياً، وبالتالي الدول التي تحاول العمل في المنطقة الرمادية مع إيران وهي حليف لروسيا – مثل فرنسا – ستجد نفسها تعمل ضمن معادلة دولية جديدة تحد من قدرتها على تحقيق اختراقات. وكلما طالت الحرب وعجز بوتين عن تحقيق نصره المنشود في أوكرانيا، ستتراجع مكانة روسيا التي ستتحول الى قوة عظمى نووية إنما من الصف الثاني وربما الثالث في حال انهار اقتصادها بسبب العقوبات. لذلك ستسعى روسيا بكل قوتها لتحقيق انتصار سريع وكاسح على الجبهة الشرقية لأوكرانيا وإقناع كييف بوقف الحرب ما سيمكنها من المحافظة على مكانتها الدولية، وهذا سيحسن موقع حليفها الإيراني. وعليه، سيتجمد العديد من الملفات وتسود حالة من الضبابية وسط تصعيد على بعض جبهات المنطقة في انتظار جلاء غبار الصراع الغربي – الروسي في أوكرانيا وخارجها.
نقلا عن النهار