أصدر القضاء السوداني، في 7 أبريل 2022، قراراً بالإفراج عن عدد من قيادات حزب المؤتمر الوطني “المنحل”، ومن أبرزهم “إبراهيم غندور” رئيس الحزب و12 آخرين من قيادات الحزب الذين ظلوا في السجن لمدة 22 شهراً للتحقيق معهم في الاتهامات الموجهة إليهم، والتي شملت تقويض النظام الدستوري، وتمويل الإرهاب، ومحاولة اغتيال رئيس الوزراء السابق “عبدالله حمدوك” و”وجدي صالح” و”صلاح مناع”، وتفجير لجنة التمكين، ومحطـة بري الحراريـــة، بالإضافة إلى تمويل الإرهاب. وأعلن القضاء عدم توافر الأدلة على تورط المفرج عنهم في الاتهامات المنسوبة إليهم. ومن الجدير بالذكر أن السلطات السودانية كانت قد أفرجت عن “غندور” في شهر نوفمبر الماضي، ثم ألقت القبض عليه مرة أخرى.
سياق مضطرب
تزامن قرار القضاء السوداني بالإفراج عن “إبراهيم غندور” وقيادات حزب المؤتمر الوطني المنحل، مع السياق الذي تشهده البلاد من حالة غير مسبوقة من الاضطراب، وعدم الاستقرار على كافة المستويات السياسية والاقتصادية والأمنية، ومن ذلك ما يلي:
1- اندلاع احتجاجات متواصلة: إذ جاء قرار الإفراج عن قيادات الحزب عقب مرور يوم واحد فقط من تنظيم مسيرات مليونية في السادس من أبريل، نظمتها قوى الحرية والتغيير ولجان المقاومة الشعبية وتجمع المهنيين السودانيين، في إطار الجدول الثوري الذي تم تحديده في شهر مارس الماضي لاستكمال الاحتجاج السلمي ضد المكون العسكري لدفعه نحو تسليم السلطة للمدنيين؛ إلا أن رفض الجيش لهذه المطالب دفع القوى الرافضة له إلى مواصلة الاحتجاجات والتظاهرات الشعبية، وذلك رغم مواجهة السلطات الانتقالية لهذه المظاهرات باستخدام القوة المفرطة والعنف لقمعها، وهو ما يُعد مؤشراً على استمرار عدم الاستقرار السياسي في البلاد.
2- انقسام سياسي واضح: يعبر عدد كبير من الأحزاب السياسية الفاعلة في المشهد السياسي السوداني -وعلى رأسها حزب الأمة القومي- عن رفضها المشاركة في أية حكومة تكرس لسيطرة الجيش على السلطة في البلاد، مع استمرار رفض الكثير منهم الحوار مع الجيش أو مشاركته في السلطة الانتقالية الحالية. وفي المقابل يوجد عدد من القوى السياسية، وعلى رأسها مجموعة “الميثاق” أو “التوافق” المنشقة عن قوى الحرية والتغيير، التي تُبدي استعدادها للتعامل مع الجيش وتدعم بقاءه على رأس السلطة، فضلاً عن توقيع عدد من الفصائل المتحالفة مع الجيش اتفاقاً لتشكيل حكومة تكنوقراط انتقالية، وبرلمان، وتشكيل هيئة قضائية، ولجان انتخابية للإعداد لإجراء الانتخابات القادمة في 2023، وهو ما يعزز سيطرة الجيش على السلطة الانتقالية.
3- أزمة اقتصادية متفاقمة: لا تزال المشكلات الاقتصادية قائمة في ظل عدم قدرة السلطات الانتقالية على حلها، وتراجع الاستثمارات الأجنبية المباشرة عن البلاد بسبب الأزمة السياسية المستمرة، ومن ذلك فقدان البلاد استثمارات بقيمة 2 مليار دولار بسبب بقاء الجيش على رأس السلطة الانتقالية، منها 500 مليون دولار منحة من مؤسسة “التنمية الدولية” التابعة للبنك الدولي لدعم قطاعات الصحة والكهرباء ضمن قطاعات أخرى، إضافة إلى دعم إضافي من البنك وصندوق النقد الدوليين بمليار دولار، ومساعدات مالية مجازة من الكونغرس بمليار دولار، علاوة على 500 مليون دولار منحة من البنك الدولي لبرنامج دعم الأسر، كما أن بنك “EXIM” الأمريكي و”هيئة التمويل الدولي” كانت بصدد استثمار 2 مليار دولار في البلاد، ضمن خطة تصل في النهاية إلى 8 مليارات دولار.
دلالات سياسية
يحمل قرار الإفراج عن رئيس حزب المؤتمر الوطني المنحل وعدد آخر من قيادات الحزب، مجموعة من الدلالات السياسية الهامة، من أبرزها ما يلي:
1- عودة رموز الثورة المضادة: ترى القوى المعارضة لحكم تبرئة قادة حزب المؤتمر الوطني المنحل، أنه جاء ليقطع الطريق أمام استكمال تحقق أهداف الثورة الشعبية التي أسقطت نظام الإنقاذ في عام 2019، ويؤكد في الوقت نفسه على إتاحة الفرصة كاملة لعودة رموز وأنصار النظام السياسي السابق للعودة للسلطة مرة أخرى، ويؤكد على هذا التوجه إصدار قرارات قضائية بإعادة المفصولين من وظائفهم بسبب انتمائهم لحزب المؤتمر الوطني المنحل والإخوان المسلمين وفقاً لقرارات لجنة إزالة التمكين التي تم تجميدها.
2- تسييس المؤسسة القضائية: رأت بعض الأحزاب والقوى السياسية المناوئة للحكم العسكري، وعلى رأسها قوى الحرية والتغيير، أن قرار تبرئة رئيس الحزب “غندور” والقيادات الأخرى من كافة الاتهامات الموجهة إليهم، إنما جاء في إطار تسييس القضاء بغرض الحصول على دعم أكبر عددٍ من الفصائل والقوى السياسية بما يُمكّن المكون العسكري من البقاء على رأس السلطة حتى انتهاء الفترة الانتقالية الحالية المقرر نهايتها بإجراء انتخابات برلمانية تسفر عن تشكيل حكومة وطنية منتخبة لتتسلم السلطة من الجيش، وترى هذه القوى أن قادة حزب المؤتمر الوطني المفرج عنهم كان لا بد من محاكمتهم محاكمات ناجزة وعادلة، في ظل عدم استكمال المؤسسات القضائية للدولة في فترة ما بعد عزل “البشير” وحتى انقلاب الجيش على السلطة الانتقالية وسيطرته على كافة مؤسسات الدولة. وفي المقابل، يرى أنصار حزب المؤتمر الوطني المنحل أن القرار الصادر يُعبّر عن نزاهة القضاء السوداني، نظراً لأن الاتهامات تم توجيهها لقادة الحزب المفرج عنهم من قبل قوى الحرية والتغيير التي كانت تسيطر على المشهد السياسي قبل 25 أكتوبر الماضي.
3- إعادة ترتيب صفوف حزب المؤتمر: من شأن القرار القضائي الخاص بالإفراج عن قيادات حزب المؤتمر الوطني المنحل أن يساعدهم في إعادة ترتيب صفوفهم مرة أخرى، وذلك من أجل الاستعداد للمشاركة في الحياة السياسية في فترة ما بعد انتهاء المرحلة الانتقالية الحالية، ويؤكد على ذلك تجمع المهنيين السودانيين الذي أصدر بيانات عدة أشار فيها إلى تلك الاجتماعات السرية التي عقدها أعضاء الحزب خلال الفترة الأخيرة. ويرجح هذا الاتجاه البيانات العديدة التي صدرت عن رئيس الحزب “غندور” عقب الإفراج عنه، والتي تضمنت الدعوة لتقديم مشروع سياسي ورؤية وطنية من الحزب لتحقيق الاستقرار داخل البلاد ومصالحها الوطنية خلال الفترة المقبلة.
4- توسيع قاعدة المشاركة في الحياة السياسية: جاء قرار الإفراج عن قيادات ورموز حزب المؤتمر الوطني المنحل، في إطار الاستراتيجية التي يتبناها المكون العسكري بتوسيع قاعدة المشاركة في الحياة السياسية لتشمل كافة الأحزاب والقوى السياسية الفاعلة في المجتمع السوداني، وذلك رغم التصريحات السابقة للفريق “عبدالفتاح البرهان” -رئيس مجلس السيادة الانتقالي- بالسماح لكافة الأحزاب السياسية بالمشاركة فيما عدا حزب المؤتمر الوطني المنحل، غير أن المعطيات الراهنة ترجح السماح للحزب بالمشاركة، وخاصة بعد الإفراج عن رموزه وقياداته، والحديث عن رفع الحزب دعوى قضائية لإلغاء قرارات حظر نشاط الحزب، وخاصة بعد إلغاء قرارات لجنة إزالة التمكين وتفكيك نظام الثلاثين من يونيو، ومن ثم عدم مشروعية قرار حظر نشاط الحزب لاحقاً، هذا بالإضافة إلى السماح لعشرات المسؤولين السابقين الموالين للرئيس المعزول “عمر البشير” والأعضاء في حزب المؤتمر الوطني المنحل بالعودة إلى مناصبهم داخل العديد من المؤسسات الحكومية في وزارة العدل والخارجية ووسائل الإعلام الحكومية، في فترة ما بعد 25 أكتوبر، كما صرح “غندور” عقب الإفراج عنه بأنه يمارس نشاطه السياسي بشكل طبيعي.
5- توظيف الخلافات بين المكونين العسكري والمدني: جاء قرار الإفراج عن قادة حزب المؤتمر الوطني المنحل المشار إليهم ليعبر عن نجاح الحملات السياسية والإعلامية التي دأبت قيادات الحزب على توظيفها منذ القبض على رموز الحزب وأعضائه للضغط على السلطات الانتقالية لإعادة النظر في الاتهامات التي تم توجيهها لأعضاء الحزب المقبوض عليهم، والمطالبة بالإفراج عنهم في ظل عدم توافر الأدلة الكافية على إدانتهم في هذه القضايا، ومن ثم إطلاق سراحهم، هذا إلى جانب نجاحهم في توظيف توتر العلاقة بين الجيش وقوى الحرية والتغيير للحصول على هذه الأحكام، ومن أبرزها إعادة المفصولين عن وظائفهم عقب إجراءات 25 أكتوبر الماضي.
6- هشاشة مؤسسات الدولة السودانية: يعكس قرار الإفراج عن قيادات الحزب المنحل ما تتسم به مؤسسات الدولة من هشاشة واضحة، ومرجع ذلك إلى أن الإفراج عن هذه القيادات جاء عقب إطاحة الجيش بالحكومة الانتقالية السابقة، وإقصاء قوى الحرية والتغيير من السلطة الانتقالية في 25 أكتوبر الماضي، وقبل ذلك ظلت هذه القيادات في السجون بسبب الاتهامات الموجهة إليهم، واقتناع قوى الحرية والتغيير ولجان المقاومة الثورية بضرورة محاسبتهم قضائياً عما اقترفوه من أخطاء خلال عهد الرئيس المعزول “عمر البشير”، وفي ذلك مؤشر على توظيف مؤسسات الدولة وفقاً لتوجهات المكون الحاكم للسلطة سواء كان مدنياً أو عسكرياً.
تداعيات محتملة
تُشير ردود أفعال القوى السياسية المختلفة داخل السودان تجاه قرار الإفراج عن بعض قيادات حزب المؤتمر الوطني المنحل، وبراءتهم من الاتهامات الموجهة إليهم إلى أن الفترة القادمة سوف تشهد بعض التداعيات المحتملة والمرتبطة بشكل رئيسي بحالة الاستقرار السياسي داخل البلاد، ومن ذلك ما يلي:
1- مواصلة الاحتجاجات السلمية: أدى قرار الإفراج عن هذه القيادات إلى إصابة القوى الثورية والعديد من المواطنين بحالة من الإحباط المتزايد؛ نتيجة شعورهم بأن أهداف الثورة الشعبية التي أسقطت نظام الإنقاذ السابق لم تتحقق، وأن الطموحات المتزايدة بإحداث تغيير سياسي جذري داخل البلاد لم تتم، وهو ما سيدفع لجان المقاومة الثورية وقوى الحرية والتغيير لمواصلة الحشد والتعبئة ضد السلطات الانتقالية القائمة التي يترأسها المكون العسكري.
2- الاستئناف ضد قرار الإفراج عن قادة الحزب: سوف تواصل قوى الحرية والتغيير ولجان المقاومة الثورية اتخاذ الإجراءات القضائية للطعن على قرار الإفراج عن قيادات حزب المؤتمر الوطني المنحل، ويشير إلى ذلك بعض المحامين التابعين لقوى الحرية والتغيير بأن الحكم الذي صدر بالإفراج عن رئيس حزب المؤتمر الوطني “إبراهيم غندور” والآخرين من قيادات الحزب هو حكم ابتدائي، ولا تزال هناك أربع مراحل للاستئناف بخصوصه، وهو ما يعني احتمال رفع المعارضين له دعاوى قضائية لإعادة محاكمتهم مرة أخرى، حيث يرون أن الحكم بالبراءة جاء متسرعاً وضعيفاً في وقت غاب فيه الشهود للدفاع عن المتهمين، وهو ما يعني مواجهات سياسية محتدمة بين حزب المؤتمر الوطني وخصومه السياسيين.
3- الانخراط وإعادة الإدماج: من المرجح أن يقوم قادة حزب المؤتمر الوطني المنحل بتوظيف القرار القضائي المشار إليه في عدة اتجاهات لخدمة هدف أكبر وهو العودة مرة أخرى للسلطة، حيث سيواصل قادة الحزب اتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة لإزالة اسم الحزب من القوائم السوداء لحظر أنشطة الأحزاب السياسية، وأيضاً مواصلة حملاتهم الإعلامية التي يواصلون تدشينها عبر المواقع الإخبارية الموالية لهم ومواقع التواصل الاجتماعي مثل “فيسبوك”، وأيضاً مواصلة حملاتهم الخاصة بتقديم الخدمات لأفراد المجتمع، ومن ثم الحفاظ على القواعد الشعبية التي سيعتمد عليها الحزب في المشاركة في الاستحقاقات الانتخابية القادمة. كما سيتيح القرار القضائي ظهور العديد من قادة الحزب الذين كانوا مطلوبين للتحقيقات القضائية في ظل شعورهم بالاطمئنان بعدم ملاحقتهم خلال الفترة القادمة.
واقع جديد
خلاصة القول، يكشف قرار الإفراج عن بعض قادة حزب المؤتمر الوطني المنحل عن تشكيل واقع سياسي جديد تتغير معه ملامح وسمات المشهد السياسي خلال الفترة القادمة، بشكل يسمح لحزب المؤتمر الوطني “المنحل” بالعودة التدريجية مرة أخرى إلى الحياة السياسية السودانية في ظل تجميد قرارات لجنة إزالة التمكين التي تم تجميدها، وهو ما يرجح مشاركة الحزب في الانتخابات القادمة المقرر عقدها في عام 2023.