في حساب الربح والخسارة، يؤكد النظام الإيراني أنه لن يتراجع عن الخطوط الحمراء التي رسمها لنتائج مفاوضات فيينا التي يخوضها مع مجموعة “4+1” وواشنطن لإعادة إحياء الاتفاق النووي، وألا معنى للمفاوضات في حال لم يستطع الدفاع عن هذه الخطوط، وأن العبور إلى مرحلة ما بعد الاتفاق وتحديداً على المسار الثنائي الإيراني- الأميركي، ينتظر قرار واشنطن السياسي.
في المقابل، تكشف الرسالة الموجهة إلى حكومة الرئيس إبراهيم رئيسي، التي بدأ النواب المتشددون في البرلمان الإيراني، بخاصة النواب المعارضين لمسار المفاوضات وأداء الفريق المفاوض بالتوقيع عليها، وتلزم الحكومة بعدم التنازل عن مطلب إلغاء جميع العقوبات والحصول على ضمانات أميركية بعدم الانسحاب مستقبلاً من الاتفاق، واختبار نواياها في تطبيق ما سيتم الاتفاق عليه، ودفع التعويضات عن الأضرار التي لحقت بإيران جراء العقوبات الأميركية، وتكشف هذه الرسالة أن مؤشرات انقسام حاد داخل قوى النظام حول المسار التفاوضي، وتبادل الاتهامات حول موافقة الفريق المفاوض على المسودة النهائية لاتفاق لا يختلف عن اتفاق 2015، بما فيه من تخلّ عن الخطوط الحمراء والقبول بالتقسيم الوظيفي للعقوبات على حرس الثورة ما بين جناح عسكري وقطاع اقتصادي.
وإذا ما كانت بعض المعطيات تشير إلى إمكانية ذهاب الطرفين، الأميركي والإيراني، لاعتماد مبدأ العودة المتزامنة لتنفيذ الخطوات التي يتم التفاهم حولها، وأن الشروط الإيرانية المعلنة، بحسب الإدارة الأميركية لا علاقة بها بمبدأ الالتزامات الثنائية التي تشكل محور المفاوضات الأساس، يبدو أن الجانب الإيراني لم يفهم أو يلتقط بشكل واضح الإشارة التي أطلقها مندوب الإدارة الأميركية في الملف الإيراني والمشرف على المفاوضات روبرت مالي خلال أعمال منتدى الحوار في الدوحة، عندما تحدث عن موافقة واشنطن على فصل المفاوضات النووية عن ملف النفوذ الإيراني في الإقليم، والتي تعني أن مفاوضات فيينا ستكون محصورة في دائرة تفكيك المخاوف من طموحات إيران النووية وتعطيل المسار التصاعدي لأنشطة تخصيب اليورانيوم واقترابها من عتبة السلاح النووي.
كلام مالي اعتبرته طهران خطوة على طريق إجبار واشنطن على الرضوخ لمطالبها وخطوطها الحمراء، إلا أنه فات على مسؤولي الملف التفاوضي في طهران أن تمسكها بإلغاء العقوبات ضد حرس الثورة كشرط لإعادة إحياء الاتفاق، لن يكون مطروحاً على طاولة التفاوض لجهة أن العقوبات على هذه المؤسسة متشعبة وتقوم في أساسها على الدور والنفوذ الإقليمي لهذه المؤسسة واتهامها بممارسة الإرهاب ودعم الجماعات الإرهابية.
وعلى الرغم من كل المؤشرات الدولية والإقليمية التي تعتبر طهران أنها تصب لصالحها، إلا أن تسارع التداعيات لهذه المؤشرات تضع النظام الإيراني على طريق التفريط بكل ما حققه من خطوات، سواء في المفاوضات النووية، أو ما يتعلق بالدور والنفوذ الإقليمي، ما لم يلتقط اللحظة التاريخية المتاحة أمامه للخروج من دائرة العقوبات والعودة للاندماج في المجتمعين الدولي والإقليمي على أسس جديدة، لعل أبرزها، طمأنة هذين المستويين من طموحاته النووية أولاً، ومن مشاريعه الإقليمية ثانياً.
دخول المفاوضات النووية في حالة من “التعليق” أو “التعطيل”، بدأ مع الشروط الروسية التي وضعت على الطاولة في الأمتار الأخيرة ما قبل جلسة التوقيع على إعادة إحياء الاتفاق، وهي شروط وإن استطاعت طهران عبر الحوار المباشر مع موسكو وبالواسطة مع واشنطن تأجيل الانهيار من دون أن تكون قادرة على نزع فتيل التفجير نهائياً، لجهة أن الموقف الأميركي والأوروبي من العقوبات على روسيا مرتبط بتطورات موقف موسكو في الأزمة الأوكرانية ومدى تلبيتها مخاوف الاتحاد الأوروبي والاستقرار الأمني لحلف “الناتو”، أي أن الاستجابة الأميركية للمطلب الروسي جاء مشروطاً، ما وضع النظام الإيراني أمام مأزق الحفاظ على العلاقة المتقدمة مع روسيا التي لم ترتق إلى المستوى الاستراتيجي، أو الذهاب إلى التفاهم مع واشنطن والترويكا الأوروبية لإعادة إحياء الاتفاق وإلغاء العقوبات بعيداً من الحليف الروسي، وفي كلا الحالين، ستكون طهران في دائرة الاستهداف في نفوذها الإقليمي من الناحية الروسية، والمقامرة بمستقبل استقرارها الداخلي وتعافيها الاقتصادي المرتبطين بالموقف الأميركي من العقوبات عليها.
وهنا، فإن سحب ملف النفوذ الإقليمي لإيران عن طاولة التفاوض مع واشنطن، أخرجه من كونه مطلباً أميركياً، وحوّله أو جعله حاجة إيرانية من أجل تخفيف مستويات التوتر مع محيطها الذي بدأ يشهد حراكاً سريعاً لترتيب أوراقه استعداداً لمواجهة مرحلة ما بعد الاتفاق.
فالمكابرة الإيرانية بتأكيد فشل اللقاءات الثنائية والمتعددة التي شهدتها عواصم دول الشرق الأوسط، من قمة شرم الشيخ إلى لقاء النقب، لم ولا تنسجم مع المواقف العملانية الإيرانية في التعامل مع أزمات المنطقة، ولعل المؤشر الأبرز في هذا السياق، ما شهدته الأزمة اليمنية من تطورات، بخاصة ما يتعلق بتنازل جماعة الحوثي والقبول بمبادرة التحالف العربي بالهدنة، وهي خطوة لم تكن لتحصل من دون موافقة طهران.
بالإضافة إلى ذلك، يبدو أن طهران بدأت بالبحث عن مخرج يعيد الحرارة إلى مسار الحوار بينها وبين المملكة العربية السعودية، ومحاولة توظيف التطور في الأزمة اليمنية لتسهيل عقد الجولة الخامسة، بعد أن تخلصت من الحرج الذي سببته هذه الورقة وعدم تعاونها الإيجابي.
هذا المحيط المتحرك، الذي يحمل مؤشرات على مرحلة جديدة من التحالفات والتطورات، قد يتحول إلى محيط أكثر تعقيداً مع انفجار الأزمة الباكستانية وما تحمله من تهديد بخسارة إيران ورقة عمقها الشرقي في أفغانستان وباكستان، بالتالي، قد يعيد خلط الأوراق عليها وإعادتها إلى نقطة الصفر، فضلاً عن بوادر حوار روسي- تركي بعيداً من طهران حول مستقبل الوجود التركي داخل الأراضي السورية وما كشف عنه أخيراً من وجود بوادر على انفتاح أنقرة على دمشق لترتيب مستقبل سوريا.
فهل ستتلقف طهران القدرة على اقتناص اللحظة التاريخية المتاحة أمامها، والعمل على تفكيك أزماتها مع هذا المحيط المتحرك الذي بدأ ينقلب لغير صالحها، أم ستخضع لضغوط الداخل المتشدد المعرقلة لأي مسار حوار سواء مع المجتمع الدولي أو المحيط الإقليمي؟!
نقل عن اندبندنت عربية