على مدى أكثر من أربعة عقود منذ تأسيس نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية، يتواصل الجدل حول الدور الذي يقوم به الحرس الثوري، والذي يمتد من حماية النظام السياسي في الداخل، إلى إدارة العمليات في الخارج، ولا سيما في دول الأزمات بمنطقة الشرق الأوسط. ومن دون شك، فإن ذلك لا يعود فقط إلى اتساع نطاق النفوذ الذي بات يمتلكه الحرس الثوري، والذي أدى إلى تهميش الدور الذي يقوم به الجيش النظامي، وإنما يعود أيضاً إلى أن هذا الدور والنفوذ بات يحظى باهتمام خاص من جانب القوى الإقليمية والدولية المعنية بالأمن والاستقرار في المنطقة.
وفي الآونة الأخيرة، تجدد هذا الجدل مرة أخرى، وذلك على خلفية التصريحات التي أدلى بها وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان لقناة “خبر”، في 27 مارس الجاري، وقال فيها إن “عدداً من قادة الحرس طلبوا من وزارة الخارجية القيام بما هو ضروري توافقاً مع المصالح الوطنية للبلاد، وفي حال وصلنا إلى نقطة تتم فيها إثارة مسألة الحرس (في مفاوضات فيينا)، فيجب ألا تكون عقبة أمامكم”، واصفاً ذلك بأنه “تضحية”. وقد عرَّضت هذه التصريحات عبد اللهيان لانتقادات حادة في الداخل، وأنضجت النقاش مجدداً حول مستوى تدخل الحرس الثوري في إدارة السياسة الخارجية للدولة، فضلاً عن الأدوار التدخلية التي يقوم بها في دول الأزمات بالمنطقة.
دوافع متعددة
يمكن تفسير تزايد الجدل حول دور الحرس الثوري في هذا التوقيت تحديداً في ضوء دوافع عديدة يتمثل أبرزها في:
1- توجيه رسائل “خاطئة” إلى القوى الدولية: يرى الاتجاه الذي شن حملة ضد وزير الخارجية أن تصريحاته توجه رسائل يمكن أن تفهمها القوى الدولية على نحو خاطئ، حيث إنها توحي بأن الحرس ليس مُصرّاً على إزالة اسمه من قائمة التنظيمات الإرهابية الأجنبية التابعة لوزارة الخارجية الأمريكية. وفي رؤية هذا الاتجاه، فإن هذه “الرسالة الخاطئة” سوف توفر فرصة للأطراف المناوئة لاتخاذ هذه الخطوة داخل الولايات المتحدة الأمريكية من أجل ممارسة ضغوط أقوى على إدارة الرئيس جو بايدن للتراجع عنها أو للإصرار على الإبقاء على “الباسدران” على القوائم الخاصة بالتنظيمات الإرهابية والعقوبات التي تصدرها وزارتا الخارجية والخزانة.
2- تجديد الحديث عن “محدودية” دور وزارة الخارجية: من شأن هذه التصريحات أن تُعيد إلى الأذهان من جديد الحوار المسرب لوزير الخارجية السابق محمد جواد ظريف، في 25 أبريل 2021، والذي وجّه فيه انتقادات للحرس الثوري بسبب تدخلاته في المهام التي تقوم بها وزارة الخارجية، والتي تؤدي إلى تهميش دور الأخيرة في عملية صنع قرار السياسة الخارجية، وهو الحوار الذي تم تسريبه في إطار سعي تيار المحافظين الأصوليين إلى منع ظريف من الترشح للانتخابات الرئاسية بعد انتهاء الفترة الرئاسية الثانية للرئيس السابق حسن روحاني، حيث كان يُتوقع أن يحظى بإجماع أقوى داخل تيار المعتدلين. ومن هنا، كان لافتاً أن الانتقادات التي وُجهت إلى وزير الخارجية كان مصدرها رئيس تحرير صحيفة “كيهان” (الدنيا) حسين شريعتمداري، المقرب من المرشد والحرس، والذي قال إن “هذه التصريحات غير متوقعة من جانب وزير الخارجية”، مضيفاً أنها “قد تؤدي إلى الاعتقاد بأن وزير الخارجية ليست لديه معرفة كاملة بشأن القضايا التي تقع في نطاق مهامه”.
3- تأسيس قيادة نووية تابعة لـ”الباسدران”: استغل الحرس الثوري التطورات الأخيرة التي طرأت على الساحتين الداخلية والخارجية من أجل تعزيز نفوذه، وكان آخر المؤشرات الدالة على ذلك قراره، في 15 مارس الجاري، بتأسيس قيادة لحماية المنشآت النووية، وهي المهمة التي كانت تقوم بها منظمة الطاقة الذرية الإيرانية والحماية الخارجية التابعة لمنظمة الدفاع المدني، حيث استند إلى أن الإجراءات التي تتخذها السلطات الحكومية لم تَحُلْ دون تكرار العمليات الأمنية والاستخباراتية التي تسببت في أضرار كبيرة داخل المنشآت النووية خلال الفترة الماضية. وكان لافتاً أن إعلان الحرس عن تأسيس القيادة النووية الجديدة توازى مع الكشف عن تفكيك خلية قال أنها تابعة للموساد كانت تستعد للقيام بعملية جديدة لمهاجمة منشأة فوردو لتخصيب اليورانيوم. ومن هنا، فإن اتجاهات داخلية عديدة بدأت في الترويج إلى أن الحرس يسعى إلى توسيع نطاق نفوذه ليشمل كل مؤسسات الدولة، وأنه لم يعد يكتفي بوصول حكومة تنتمي إلى تيار المحافظين الأصوليين القريب منه إلى السلطة.
4- تعزيز التمايز بين الحرس والجيش: لا يمكن فصل الجدل الذي تتصاعد حدته حالياً حول الدور الذي يقوم به الحرس الثوري عن قضية باتت تحظى بحساسية خاصة داخل إيران، وهي قضية العلاقة بين الحرس والجيش، خاصة بعد أن بدأت تصريحات لبعض قادة الجيش توحي بأن توسع نفوذ الحرس لا يحظى بقبول ملحوظ من جانب هذه المؤسسة. ومن هنا، فإن أحد الاتجاهات بات يرى أن الأطراف التي تعمدت إلقاء الضوء على تصريحات عبد اللهيان والانتقادات التي وُجهت إليه بسببها تسعى، ضمن أهداف عديدة، إلى تأكيد أن الحرس هو الذي يمتلك السلطة والنفوذ الأقوى في عملية اتخاذ القرار، خاصة فيما يتعلق بقضايا السياسة الخارجية. وبمعنى آخر، فإن هذه الأطراف لم تعتبر تصريحات عبد اللهيان “مسيئة” للحرس بقدر ما هي “مفيدة” للأخير، باعتبار أنها توجه رسالة مباشرة بأن وزارة الخارجية، ومن ثم الحكومة، لا تستطيع اتخاذ قرار سياسي مهم إلا بعد الحصول على ضوء أخضر من جانب “الباسدران”.
ومن دون شك، فإنتصريحات مستشار المرشد وزير الخارجية الأسبق كمال خرازي في منتدى الدوحة، في 27 مارس الجاري، تعزز من دور الحرس على الساحة الداخلية الإيرانية، حيث قال إنه لا تنازل عن شرط شطب الحرس الثوري من قائمة التنظيمات الإرهابية قبل إبرام الاتفاق النووي. وهنا، كان لافتاً أن خرازي حاول الرد على تصريحات عبد اللهيان، رافضاً المقاربة التي توحي بها تلك التصريحات، والتي تقوم على أنه يمكن الوصول إلى صفقة جديدة بدون إقدام واشنطن على اتخاذ تلك الخطوة. كما أن الموقع الذي يشغله خرازي حالياً، وهو رئيس المجلس الاستراتيجي للعلاقات الخارجية، يطرح دلالة مهمة تتعلق بأن النظام في إيران يتعمد مزاحمة وزارة الخارجية بمؤسسات أخرى قد يكون لها دور في عملية صنع قرار السياسة الخارجية، وهي مقاربة مستقرة للنظام تقوم في الأساس على عدم الارتكان إلى بديل واحد، على نحو يبدو جلياً، كما سلفت الإشارة، في ازدواجية الأدوار بين الحرس الثوري والجيش النظامي.
نقاش مستمر
يمكن القول في النهاية إن الجدل حول دور الحرس الثوري سوف يتواصل، بصرف النظر عن المسار الذي يمكن أن تنتهي إليه المفاوضات التي تجري في فيينا بين إيران ومجموعة “4+1” بمشاركة غير مباشرة من جانب الولايات المتحدة الأمريكية حول الاتفاق النووي، فأياً كانت نتيجة هذه المفاوضات، فإن تعزيز النفوذ على الساحتين الداخلية والخارجية سوف يبقى هو العنوان الأهم للتحركات التي يقوم بها “الباسدران” في المرحلة القادمة، على نحو سوف يضع حدوداً لأي تفاهمات قد يتم الوصول إليها بين طهران وواشنطن حول شرط رفع الحرس من قائمة التنظيمات الإرهابية.